أخيرة

الأديب الراحل غالب هلسا… رجل فكر ومبدأ عاش ومات لأجلهما

‭}‬ سارة طالب السهيل
الأديب الأردني العالمي المتمرّد… المعايش للعواصم الحضارية الأربع ( بيروت – بغداد – القاهرة – دمشق) مبدع مشتبك مع واقعه ويمكن اعتباره وبحق مثقفاً عضوياً، لم تحتمله أيّ من هذه العواصم العربية فارتحل بينها مرغماً، وهذا الترحال الاضطراري أحياناً أكسَبه دراية عميقة بتلك العواصم فكتب عنها وكتبته، ولم يغب عنه الوطن الأمّ حيث مرابع الصبا، فكانت الأردن بكلّ جغرافيتها حاضرة دوماً في وجدانه كما في إبداعه.
قاهرة الستينيات بكلّ وهجها الثوري وثرائها الثقافي سكنته وسكنها على مدى عقدين ونيّف من الزمان، ولم يتوقف الأمر عند إتقان لهجتها والتحدث بها أينما حلّ، بل جاءت العديد من رواياته في مناخات تغلب عليها الأجواء المصرية؛ وفي هذا نذكر روايات «الخماسين» و»الضحك» و»السؤال» وروايته الأخيرة المثيرة «الروائيون»، كلّ تلك الروايات تتردّد في داخلها أجواء المثقفين المصريين ولم تخلُ من إطلالات على الأجواء الشعبية الفقيرة وتوقف فيها أمام المرأة المصرية الشعبية.
أيضاً سعى غالب هلسا في رواياته تلك كما في الكثير من رواياته الأخرى لاكتشاف معنى للحياة بالإنغماس في الملذات الحسية، والاحتفاظ في الوقت نفسه بنزعة تأملية تحليلية للشخوص والمواقف تندرج في السياق الدرامي ولا تنفصل عنه، بما ينأى بالروايات عن الوقوع في فخ الذهنية، مع شحنة سياسية نقدية بل راديكالية وفي جميع الحالات تماهى مع الحياة المصرية واندمج في نسيجها الاجتماعي والسياسي والثقافي، كما تماهى مع الحياة العراقية في روايته «ثلاثة وجوه لبغداد».
كان فضلاً عن كونه روائياً وقصاصاً، مثقفاً عضوياً، منشغلاً بالواقع السياسي والثقافي والفكري في وطننا العربي والعالم، يحمل بين جنباته حلماً بتحديث مجتمعاتنا العربية على كافة الصعد الاجتماعية والثقافية والسياسية. وفي سبيل تحقيق حلمه هذا، أنجز العديد من الروايات والقصص القصيرة، فضلاً عن كتباته في النقد الأدبي، والفلسفة والفكر، وانجز العديد من التراجم .
وإلى جانب رواياته ومجموعتيه القصصيتين، كتب غالب هلسا عن «العالم مادة وحركة» (في محاولة لفهم بعض مفكري المعتزلة)، و»الجهل في معركة الحضارة» (في ردّ على كتاب لمنير شفيق)، و»قراءات في أعمال: يوسف الصايغ، يوسف إدريس، جبرا إبراهيم جبرا، حنّا مينه، كما ترجم «الحروب الصليبية» للروائي الإسرائيلي عاموس عوز، و»الحارس في حقل الشوفان» للروائي الأميركي جي. دي. سالينجر، و»جماليات المكان» للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار.
ما يكشف عن اهتماماته المتعدّدة وقدراته الفكرية والإبداعية التي جعلته واحداً من الكتاب المؤثرين في الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا أردنا التوقف قليلاً أمام رواية «السؤال» التي أعيدت طباعتها في مصر محفزاً على ندوتنا تلك، فأنا أعتقد أنّ رواية “السؤال” مثلت وبحق معالجة روائية فذة للحياة المصرية في ستينيات القرن الماضي حتى أنّ البعض وجد فيها رداّ على رواية “اللص والكلاب” لمحفوظ، حيث أنها تعالج ذات الواقعة الحقيقية التي جرت أحداثها في ستينيات القرن الماضي وتناولتها الصحف المصرية آنذاك تحت عنوان السفاح .
لكن معالجة هلسا جاءت ضمن رؤية يسارية، وبأدوات كتابة مناهضة للرواية البورجوازية التي مثلتها «اللص والكلاب» للأديب المصري الكبير نجيب محفوظ.
لقد رحل المبدع الأردني العربي غالب هلسا عن عمرٍ ناهز الـ57 عاماً في مدينة دمشق في العام 1989، تاركاً للأدب العربي إرثاً قيّماً من الأعمال الأدبية والفكرية، أعمال عبّرت ضمن ما عبّرت عن النفس والذات والغربة، وعلاقتها بالسلطات وضيق أُفقها السياسي، والبسطاء ومعاناتهم الاجتماعية.
غادرنا جسد غالب هلسا وترك لنا العديد من الأعمال الأدبية التي غاصت في أعماق مجتمعاتنا العربية وأرّخت اجتماعياً وسياسياً لواقعنا العربي الذي عاشه على مدى خمسة عقود ونيّف فكانت: (الضحك 1971)، (الخماسين 1975)، (السؤال 1979)، (البكاء على الأطلال 1980)، (ثلاثة وجوه لبغداد 1984)، (نجمة 1992)، (سلطانة 1987)، (الروائيون 1988)… فضلاً عن مجموعتين قصصيتين هما (وديع والقديسة ميلادة 1969) و(زنوج وبدو وفلاحون 1976).
انّ المنجز الإبداعي والثقافي الفكري لغالب هلسا يتطلب من المهتمّين بالثقافة العربية أن يولوا اهتماماً خاصاً بهذا المنجز الذي يمثل إضافة نوعية للثقافة العربية .
وبما أنني أتقبّل جميع الآراء والتوجهات مهما كانت مختلفه عني، سواء اتفقنا مع آرائه أو اختلفنا لا يسعنا إلا أن نحترم شخصه النزيه الذي لم تكن غايته المال والمتاجرة بالقضايا، إنما كان رجل فكر وصاحب مبدأ عاش ومات لأجله.
لروحه النبيلة الوثابة المفعَمة بالجمال السكينة والسلام. ولإبداعه وسيرته المجد والخلود.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى