أخيرة

آخر الكلام

في عيد التأسيس… ماذا يمكن أن نقول؟

‭}‬ الياس عشي
قرأت :
« يُحكى أنّه كان يوجد ملك أعرجُ، ويرى بعين واحدة. وفي أحد الأيام دعا هـذا الملك فنّانين ليرسموا له صورة شخصيّة، بشرط أن لا تظهر عيوبه في هـذه الصورة! رفض كلّ الفنّانين رسم هـذه الصورة، إذ كيف سيرسمون الملك بعينين وهو لا يملك سوى عين واحدة؟ وكيف يصوّرونه بقدمين سليمتين وهو أعرج؟
ولكن وسط هذا الرفض الجماعي، قبل أحد الفنانين رسم الصورة؛ وبالفعل رسم صورة جميلة وفي غاية الروعة.
كيف؟
تصوّرَ الملكَ واقفاً وممسكاً ببندقية صيد موجّهة إلى هدف ما، مغمضاً إحدى عينيه، وحانياً قدمه العرجاء.
وهكذا رسم صورة الملك بلا عيوب وفي غاية البساطة.
بغضّ النظر عن مصدر هـذه الحادثة، وعن أهميتها على الصعيد الفردي، فإنّ خطرها قد يصبح كارثيّاً إذا كان الهدف الرئيس منها هو أن نتجاوز العيوب والأخطاء في مؤسّسة ما، أو في متّحد ما، أو في مجتمع بكامله، وأن نكون شهود زور حتّى ونحن نبتلع تاريخ أمتنا المكتوب بحبر الآخرين، أو ونحن نراقب البؤس والجهل والخيانة وقد صاروا علامة فارقة في المجتمع الذي ننتمي إليه، ونعيش به.
وفي عيد تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي نعود إلى سعاده الذي رفض أن يكون رسّاماً مخادعاً، فكان سؤاله الأول:
«ما الذي جلب هذا الويل إلى أمتي؟ «
وكان سؤاله الثاني :
«من نحن؟ «
وكان باستطاعة سعاده أن يختبئ وراء الأجوبة التي اكتشفها، وأن يرسم لوحة لأمّته لا عورة فيها ولا عيب، فيعيش بسلام كما عاش الكثير من الفلاسفة والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين.
سعاده مع سقراط وابن المقفّع والحلّاج ولائحة لا تنتهي من شهداء المعرفة، رسموا خريطة طريق للإجابات الصحيحة، ولكنها خريطة مليئة بالألغام، ولم يكن باستطاعة أحد تجاوزها بسلام. فسعاده، منذ اللحظة الأولى لتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أحسّ بضرورة أن يرسم اللوحة كما هي، فلجأ إلى سرّية العمل.
وتمضي سنوات ثلاث إلى أن يُكتشفَ أمر الحزب، ورغم السجن والغربة القسرية والمطاردات والإغراءات لم تهن عزيمة سعاده، ولم تتوقف الاحتفالات بعيد التأسيس مرّة واحدة، ولم يتوقف سعاده عن الكلام لينقل إلى العالم الصورة الحقيقية لأمته بعد أن ظنّ الكثيرون أنها ماتت، فـ «الحقيقة مهما كانت مرّة أحسن وسيلة لسدّ العطش إلى المعرفة» كما يقول أحدهم.
واليوم، نحن السوريين القوميين الاجتماعيين، مطالبون بالعودة إلى الماضي الجميل، إلى المكاشفة بين قوميّ وآخر لهما ذكرى تأسيس واحدة. كفانا مؤتمرات تعقد هنا أو هناك. كفانا اجتماعات في الفنادق المتعدّدة النجوم. لنفتح باب الحوار، ولنرسم الصورة كما هي، وبكلّ تفصيلاتها، وبكلّ جراحها؛ فالرسّام البارع لا يخفي العيوب، شأنه شأن كلّ فنان يؤمن بضرورة الالتزام، وأنّ الفنّ ليس من أجل الفنّ، بل من أجل أن يخدم قضية الإنسان، وهذا ما نادى به سعاده في حديثه عن الصراع الفكري في الأدب السوري.
هكذا… في عيد التأسيس يشارك القوميون زعيمهم في الإمساك بجمرات النار، ففي السادس عشر من تشرين الثاني، قبل إحدى وتسعين سنة، قرّر أنطون سعاده أن يدخل دائرة النار، أن يمشيَ في حقل من الألغام، فأسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الخطةَ المعاكسة لوعد بلفور، والردَّ الطبيعي لمعاهدات مشبوهة ظهرت خطوطها الأولى في «بروتوكولات حكماء صهيون»، لم تكن سايكس ـ پيكو أوّلها، ولن يكون اللهاث باتجاه التطبيع آخرها.
صدقوني، أيها الرفقاء، أنه ما من حزب أقام الدنيا ولم يقعدها كالحزب السوري القومي الاجتماعي، فمنذ أن تأسّس في العام اثنين وثلاثين بعد الألف والتسعمئة، وحتى اليوم، بقي في واجهة الأحداث القومية والاجتماعية والوطنية والسياسية، يتفاعل معها، أو يفعلها، ولكنه ما من مرّة وقف منها موقف المراقب أو المتفرّج أو اللامبالي.
ومما لا ريب فيه أنّ عقيدة الحزب التي أسّس لها الزعيم سعاده إمّا بالكتابة، وإمّا من فوق المنابر، وإما باستشهاده، كانت السبب الرئيس في بقاء الحزب، كلّ هذه السنوات، حيّاً، فاعلاً، ديناميكيّاً، قادراً على تجاوز الأزمات، متجاوزاً المواقف الكيانية الضيقة والآنيّة التي تحكّمت دائماً في أصول ومفاصل الأحزاب الأخرى.
فالعقيدة القومية الاجتماعية هي عقيدة دستورية تفتقر إليها كلّ الأحزاب، إذ لا حزب على الإطلاق، كما يقول بسام سعد في دراسته «الحزب في مأزق»، لديه دستور ينظم الحياة التشريعية والتنفيذية والقضائية لأعضائه، كما عند الحزب السوري القومي الاجتماعي.
والقوميون شُرّدوا، وسجنوا، وعذّبوا أحياناً حتى الموت، وطردوا من وظائفهم، وأعدموا، ولكنهم كانوا، دائماً، كطائر الفينيق، يعودون من جديد، ويُطلّون من مغترباتهم القسرية، مفكرين وأدباء وتجاراً وصانعي قرار، أو يطلّون في ربوع أمتهم أبطالاً غير آبهين بالمخاطر، رافضين كلّ ترغيب يأتيهم من الرياح الأربع.
ويوم ضاقت بالقوميين السبل، وحوصروا في لبنان والشام، انضوَوا في منظمات فدائية لمحاربة اليهود، منها، على سبيل المثال وليس الحصر، منظمة أيلول الأسود. وإذا قُدّر لهذه الفترة أن تدوّن بإخلاص وموضوعية فإنّ أموراً كثيرة ستتوضّح، منها حضور القوميين اللافت في المقاومة الوطنية اللبنانية، حيث لا مجال للشكّ بأنهم هم المؤسّسون لها وليسوا المنتمين إليها، وأنهم «غيّروا وجه التاريخ» في اللحظة التي أطلق فيها الشهيد خالد علوان رصاصاته في «الويمبي»، معلناً قيام أسلوب آخر في محاربة يهود الداخل ويهود الخارج.
ولم يُظلم فريق كما ظلِم السوريون القوميون الاجتماعيون، فالظلم جاءهم من الحكام الخائفين على عروشهم، ومن الدول الاستعمارية الخائفة على مصير معاهدة سايكس ـ پيكو، والتي وقّعت، في الأساس، لقيام الدولة العبرية، وجاءهم من الدول الإقليمية التي ترى في الانقضاض على سايكس ـ پيكو انقضاضاً على حدودها الوهمية، وجاءهم من حراس الهيكل الذين يرون في فصل الدين عن الدولة هرطقة وإلحاداً.
وهذا الظلم كان السبب في عذابات القوميين، ولكنه كان أيضاً الجمرات التي أضاءت عقولهم، وصلّبت إيمانهم، وشدّت قبضاتِهم، وجعلت منهم نموذجاً يُحتذى به عندما يبدأ الحديث عن الحزب السوري القومي الاجتماعي وأعضائه.
أيها الرفقاء السوريون القوميون الاجتماعيون، إنّ انتماءكم إلى هذا الحزب العظيم هو ترجمة لرغبة فيكم أن تدخلوا، مع المؤسّس أنطون سعاده، إلى دائرة النار، وأن تمسكوا بكُرات الجمر، وتعملوا من أجل قضية تساوي وجودكم.
وأكاد أسمع أصواتكم المدويّة وأنتم تردّدون:
ـ لمن الحياة يا أبناء الحياة؟
ـ لنا
ـ ولمن نحيا؟
ـ لسورية
ـ تحيَ سورية
ـ تحيَ تحيَ تحيَ…
ـ ومن هو زعيمنا؟
ـ سعاده
ـ يحيَ سعاده
ـ يحيَ يحيَ يحيَ…
صدقوني يا رفقائي أنني منذ خمسة وستين عاماً وأنا أردّد بفرح هذا النداء، متجاوزاً كلّ الأزمات التي مرّ بها حزبنا، راهنتُ عليه كي يبقى، وبقي، وسيبقى، وسترون غداً أنّ «تحيا سورية» هي اللازمة التي تعيش بين أهدابنا، وهي القلادة التي ستشدّ من عزيمة الأجيال التي خاطبها سعاده والتي لم تولد بعد، وهي الأيقونة التي سيلتفّ حولها الجميع مهما كابروا، ومهما علا صوتهم من هنا… وهناك… وهنالك.
ولتحيَ سورية، والخلود لسعاده، والمجد لشهدائنا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى