نقاط على الحروف

100 يوم بعد الـ33 أو 4 مرات حرب تموز

ناصر قنديل

– ربما تغيب الحقائق الجوهرية الجديدة التي تقولها الحرب الدائرة عن المتابعين بفعل انشغالهم بوقائع المتابعة اليومية لأحداث الحرب الدائرة والانشغال بالسؤال عن النهايات، سواء من موقع القلق على المقاومة في غزة وحجم الضغوط العسكرية والسياسية التي تجتمع عليها لانتزاع نصرها المحقق في 7 تشرين الأول من بين أسنانها وليس فقط من بين يديها، أو من موقع القلق في المنطقة والدول التي تشهد جبهتها اشتعالاً في مواجهة جيش الاحتلال من توسّع الحرب وتصاعدها، وفي طليعتها لبنان. ولعل أولى هذه الحقائق الجوهرية تنبع من الانتباه إلى أننا نخوض أول حرب تشارك فيها بوجه جيش الاحتلال عدة جبهات عربية منذ خمسين عاماً، حيث كانت حرب تشرين 1973 آخر حروب العرب مع “إسرائيل”، مع فارقين رئيسيين، الأول أن هذه الحرب لا تخوضها الجيوش بل المقاومات، والثاني أن الجبهات العربية المشاركة هي خمس وليست اثنتين فقط. ومثل العام 73 بدأت الحرب بمبادرة من الطرف العربي، لكن العبور كان فلسطينياً عبر الطوفان نحو أرض محتلة عام 48 وليس نحو أرض جرى احتلالها عام 67، بما يعني إصابة عصب كيان الاحتلال بالاهتزاز. وكذلك فإن الحصار جاء يمنياً لتعويض غياب الاستخدام العربي لسلاح النفط، كما جرى عام 73، عبر الإمساك بعنق التجارة العالمية وممرات الطاقة من باب المندب والبحر الأحمر.
– من هذه الحقائق الجوهرية أن الدعم الأميركي لكيان الاحتلال تجاوز كل حدود سابقة، سياسياً ومعنوياً وإعلامياً وعسكرياً، فقد حلّت الجسور البحرية والجوية الممتدة على مدار الساعة مكان الجسر الجوي عام 73، لكن عبثاً، فجيش الاحتلال لم ينجح بإقامة دفرسوار، في الجبهات العربية، ولم تنفع زيارات بلينكن المكوكية في تحقيق ما حققته زيارات كيسنجر عام 73 بتفكيك وحدة الجبهات، وكانت نتيجة الترهيب والترغيب الفشل المتكرر. ويكفي للتأكيد رؤية مشهد أمس عن استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر بالتوازي مع استهداف قاعدة أميركية في العراق، وإطلاق صاروخ على الجولان المحتل، بينما المقاومة على جبهة لبنان تواصل استهداف مواقع الاحتلال، فيما غزة تقاتل وتلحق المزيد من الخسائر بجيش الاحتلال. وفي خلفية هذا التوازن الضامن لاستمرار الجبهات، فرضية كبرى اسمها عمق إيران الاستراتيجي مقابل فرضية الانخراط الأميركي المباشر في الحرب، وبينهما مسار تفاوضي يصعب التلاعب بجدول أعماله لتغيير نتائج مواجهات الميدان.
– من هذه الحقائق الجوهرية أن الحرب مستمرة لليوم 33 بعد المئة، أي ما يعادل تقريباً مرتين لمدة حرب لبنان التي استمرّت قرابة الستين يوماً عام 1982 وانتهت باتفاق فيليب حبيب لإخراج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان (من 4 حزيران إلى 18 آب 1982)، و6 مرات حرب 73 التي امتدت من 6 إلى 28 تشرين الأول عندما تم تنفيذ وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، و4 مرات حرب تموز 2006 التي امتدّت لـ 33 يوماً من 12 تموز إلى 14 آب 2006، وتجاوزت مجموع أيام حروب غزة، منذ 2008 الى 2023، وأصيب خلالها كيان الاحتلال بخسائر لم يعرفها في أي من حروبه السابقة عسكرياً واستراتيجياً. فهي المرة الأولى التي يخسر فيها دعم الشارع الغربي، ويخسر فيها حرب الرواية، ويمثل فيها أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني. وهي المرة الأولى التي تصاب خلالها ألوية النخبة في جيش الاحتلال بخسائر فادحة، بما يستدعي سحبها من جبهات الحرب. وهي المرة الأولى التي يصعب فيها على المداخلات الأميركية والإقليمية ترتيب وقف لإطلاق النار يحفظ ماء وجه جيش الاحتلال، وتتعرّض خلالها أميركا ذاتها لتحديات تتصل بقدرة الردع الأميركية، خصوصاً في البحار والممرات المائية.
– من هذه الحقائق الجوهرية أنه من غير الجائز للعرب أن يقاربوا هذه الحرب من زاوية حجم الخسائر البشرية التي ألحقتها الجرائم الاسرائيلية بحق المدنيين في غزة، وقد تسببوا بأضعافها في حروبهم العبثية، التي موّلوها واستجلبوا الجماعات المتطرفة لخوضها، ودمّروا خلالها سورية واليمن وليبيا ويدمّرون السودان، وهم يعلمون أن الخيار ليس بين الحرب الراهنة بأرباحها وخسائرها، وحال الاستقرار والهدوء، بل بين هذه الحرب وتلك الحروب، فلا تشفي جروح الحروب الكارثية التي دمّرت المنطقة وقتلت مئات الآلاف الا بحرب عنوانها فلسطين. وها هي حرب فلسطين تضمد نسبياً جراحات حرب سورية واليمن، سواء عبر حجب الأضواء عن قوى التخريب التي تريد لها العودة الى الواجهة، أو عبر إقناع بعض الذين تورطوا فيها بالخروج الآمن منها الى مناطق المصالحات كما في اليمن، أو الخيارات المشتركة كما حدث في عودة حماس إلى سورية.
– أهم هذه الحقائق الجوهرية هي أنه رغم محاولات تخريب مسار الحرب التي قادتها جماعات لم تكن بعيدة عن حروب العبث واصطفافاتها، سواء عبر السعي لتشويه صورة محور المقاومة والسعي لابتزازه لفرض استدراجه نحو مشاركة متهورة غير محسوبة. فقد نجح محور المقاومة بإمساك زمام المبادرة وإدارة دفة الحرب بذكاء واحتراف استراتيجي وتكتيكي. وها هو يسحب كيان الاحتلال ومن خلفه أميركا إلى مناطق صعبة وحرجة سياسياً وعسكرياً، بين خيارات مثل التورط بالتصعيد نحو حرب لا يمكن التحكم بنتائجها، وفائض قوة المحور لا يزال بكامل قدراته، وقواه البرية لا تزال بكامل حيويتها، بينما استنزف جيش الاحتلال الكثير من ذخائره دون وجود فرص مفتوحة لتعويض المخزون، واستهلك قدرة قواته البرية على خوض المزيد من المواجهات الصعبة، أو خيارات موازية بالذهاب إلى تفاهمات سياسية تنهي الحرب وتكرس انتصار المقاومة في غزة وعلى رأسها حركة حماس، بينما جبهات المحور قد جرى ربطها جميعاً، بمعادلة لا تفاوض قبل التوصل إلى اتفاق في غزة يُنهي الحرب بصيغة ترضي المقاومة.
– بعد مئة وثلاثة وثلاثين يوماً، تبدأ مرحلة جديدة من الحرب، يبدو أن جرعات القوة ودفة القيادة فيها تنتقل إلى جبهة لبنان ودورها الأبعد من الإسناد، كما تقول كلمة السيد حسن نصرالله، لمن يريد أن يقرأ آخر الحقائق الجوهرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى