مقالات وآراء

المفاوضات ضاغطة والخيارات مفتوحة…

 د. محمد عيسى

تستند المفاوضات السياسية بشكل أساسي على مركز القوة وحجم المعلومات لدى المفاوض، وإمكان توظيفها في خدمة الأهداف التي يريدها، وقدرته على استخلاص مطالب المفاوض الآخر، دون التصريح برفض قاطع للفكرة المقدمة، وضرورة أن يكون المفاوض قد تقصّى عن خبرات وقدرات الفريق المفاوض الآخر من خلال دراسة لعمليات تفاوضية سبق أن شارك بها الفريق الآخر.
في ظلّ الصراع الطويل بين العرب و»إسرائيل» لم يعد خافياً على أحد المراوغة التي يعتمدها العدو، (والفلسطيني خَبِرَ ذلك) غالباً ما تكون لكسب الوقت كما الحال حالياً في الحرب القائمة في غزة، فنتنياهو يحاول إطالة مدة بقائه في الحكم بالتزامن مع الرهان على تحقيق أهدافه التي رسمها ضمنياً في حربه. والحديث هنا ليس عن المعلن منها لعدم واقعيتها خاصة لجهة القضاء على حماس، إنما هدفه تهجير فلسطينيّي القطاع وتحويل ساحل غزة إلى منطقة استثمار لغازها ومحطة ترانزيت للعالم تمهيداً لإقامة قناة بن غوريون واستغلال دعايته بالبحث عن الرهائن لدى حماس للبقاء على مبرّراته لاستمرار الاجتياح.
في ظلّ ذلك يفاوض وفقاً لمنهج الهيمنة والتشدّد حالياً، مهدّداً باجتياح رفح حيث المليون وثلاثمائة ألف مدني للضغط على حماس وإقناع الطرف المفاوض عنها بشروطه سعياً لجعل القطاع بؤرة أمنية خاضعة لسلطة الاحتلال ودفعاً لهم لطرح سلطة تحكم غزة يرضى بها وإلا إبقاء خيار اجتياح رفح قائماً.
في المقابل تنتهج حماس أسلوب التفاوض على حافة الهاوية من باب امتلاكها لورقة الرهائن لما لها من تأثير وضغط على استقرار حكومة نتنياهو في ظلّ الضغط الشعبي عليها بفعل المظاهرات، وأحسن بذلك ابو عبيدة عندما أعلن عن الخطر المحدق بحالة الرهائن.
عندما ينطلق المفاوض من المعلومات والمعطيات التي يمتلكها عن الطرف الآخر ومعرفته بنقاط القوة والضعف والإمكانات التي يملكها، وإدراكه بشكل جيد للمصلحة التي يريدها، فيطرح حلاً واحداً يقنع الطرف الآخر بأنه الحلّ الوحيد الممكن للخروج من النزاع، مستخدماً كلّ المعطيات التي لديه ليحصل على أكبر قدر من التنازلات، ويقوم هذا المنهج بين الطرفين على عدة خطوات ابرزها:
1 ـ تحديد حافة الخطر للخصم بدقة، فحماس تُدرك المأزق السياسي الذي يعيشه نتنياهو والأخير يدرك حجم الضغط من باب المدنيين على حماس في حال الدخول إلى رفح، في نفس الوقت يطرح بعض ما تريده حماس من باب استغلاله لمأساة المدنيين واللعب على مجالات الجذب لها كالمساعدات الإنسانية والطبية، مع رغبته بعدم الانسحاب ووقف النار إنما يسعى لهدنة يسحب عبرها ورقة ضغط الرهائن بتحريرهم تفاوضياً، ففي حال إطلاقهم يعود إلى القتال متخلصا من ورقة حماس الرابحة وضغط المجتمع الاسرائيلي وذلك تدركه جيداً حماس، بالتالي لن تقبل به. وهي تراهن على غياب المعلومات الكافية لدى العدو عن مكان الرهائن.
2 ـ التشخيص الجيد والدقيق للموقف التفاوضي بين الأطراف المفاوضين، والتحديد الواضح لشروط وظروف المرحلة التي سوف يتمّ التفاوض فيها. فالمفاوض الناجح الكفوء المحنك يضع تكتيكه، وقد أبدع السنوار بذلك في الهدنة الفائتة حيث تدرّج في المرحلة الأولى من عدد أقلّ للأسرى المفترض تحريرهم الى عدد أعلى وعند رفض العدو لذلك غاب عن التواصل وهو مدرك لحاجة العدو السياسية لتحرير الرهائن.
السقوف العالية لكلا الطرفين لا تبشر بالحلّ السريع، فـ حماس تطالب بالوقف الكامل لإطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي ورفع الحصار وتوفير المأوى الآمن للنازحين.
جاء الردّ من نتنياهو بقطع المفاوضات ومنعه للوفد المفاوض الذهاب للقاهرة في الجلسة الثانية، قابله تهديد من حماس بعدم رغبتها بالعودة للتفاوض إلا عند موافقة «إسرائيل» على شروطها وهذا نضعه ضمن تكتيك التفاوض.
فالمقدرة على التخطيط واستعمال الوقت للملاءمة بين الموضوع والهدف أسلوب يتقنه الطرفان، فكلاهما يضع حداً أعلى للمفاوضات ويتحفظ عن الحدّ الأدنى لما يريد الوصول إليه. في الوقت نفسه لا يمكن لأيّ من الطرفين التنبّؤ بنجاح أو فشل المفاوضات .
ولكن ماذا لو فشلت، سيبقى القطاع محتلاً وتبقى حماس تقاوم، وبالتالي على «إسرائيل» ان تبقى من شرقها إلى غربها تعيش الفوضى واللا استقرار على كلّ المستويات وتأثير ذلك على المنطقة بأكملها.
هذه المنهجية نجدها عندما يكون هناك طرف قوي وآخر ضعيف، وحماس تعتبر أنها في موقع قوي، والعدو كذلك، ولا يُخفى على أحد أنّ هذا الأسلوب يجد في طياته بذور الفشل. بانتظار أول فرصة تتبدّل فيها الظروف ويستجدّ الخوف بأن ينقلب الاسرائيلي على الاتفاق الذي كان بصدد أن يبرمه، أو أن تشعر حماس بالتسلط عليها وتنسحب من المفاوضات… لذلك تسعى الدول الراعية للمفاوضات إلى إيجاد مخرج على قاعدة «رابح رابح»…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى