إرجاء نقل السفارة… والنصر المبين…؟
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
هم يتعاملون مع السياسة ويفهمونها على أساس انها جبر وليس حساب، ونحن بالكاد نفهم أنها حساب، ولديهم القدرة العالية والخبرة والذكاء والدهاء على تفريغ قضايانا الجوهرية من مضمونها، وعدم تسليط الضوء عليها وتبهيتها إلى أدنى مستوى ممكن، ويترافق ذلك مع شنّ حملة شرسة على القضية التي نرى بأنها جوهرية، والتي من شأنها تعريض مشروعهم الإستيطاني للخطر، أو فضح وتعرية مخططاتهم وأهدافهم في الرفض المطلق لكافة قوانين الشرعية الدولية وما يتصل بها من اتفاقيات وقرارات ذات صلة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ويعملون على تشتيت جهدنا وإرباكنا من خلال لعبة متاهات معنا يجيدون لعبها، ونحن نقع في شرانقها ولا نستطيع الخروج، وعندما نتلمّس طريقنا للخروج منها يكونون قد استكملوا كلّ خططهم ومخططاتهم التي من أجلها أدخلونا في هذه الشرنقة، ففي الوقت الذي أصبحت فيه قضية منع الأذان في العديد من المساجد في مدينة القدس، قضيتنا المركزية التي ننشغل فيها فلسطينيين وعرب ومسلمين، كانوا هم يخططون لتهويد الأقصى، وتقسيمه زمانياً عبر فرض ساعة اقتحام صباحية زيادة للمدة الزمنية في الاقتحامات الصباحية، وكذلك تجري عملية ربط لساحة البراق «حائط المبكى» بخط السكة الحديدية القادم من تل ابيب، بحيث يجري حفر أنفاق تحت البلدة القديمة او سور القدس بعمق خمسين متراً ولمسافة 2 كم، توصل سكة الحديد لحائط البراق، والآن تناسينا قضية منع رفع الأذان، ونلهث خلف ما يرسمونه ويخططونه لنا، دون ان نحقق أية نجاحات في أيّ من قضايانا، لكوننا نتعامل بردود فعل وعلى الهمة، دون وحدة سياسية أو استراتيجية وطنية شمولية للمواجهة، وخطط وبرامج جدية وحقيقية.
بعد قرار مجلس الأمن الدولي 2334 باعتبار الإستيطان غير شرعي ومطالبة المحتلّ بالتوقف عنه في القدس والضفة الغربية باعتبارها أراضيَ محتلة وفق القانون والقرارات الدولية ذات الصلة، وحتى لا يجري تسليط الضوء على هذا القرار وجعل الإستيطان قضية مركزية، فاستمراره من شأنه تقويض حلّ الدولتين بشكل نهائي، كان هناك اتفاق بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية على مشاغلة العرب والفلسطينيين في قضية نقل السفارة أو عدم نقلها أو إرجاء نقلها، على ان تطلق يد اسرائيل في «التغوّل» و«التوحش» الإستيطاني في القدس، ويلتزم نتنياهو تكتيكياً بعدم إثارة قضية نقل السفارة والإلحاح عليها، حتى انّ صحيفة «هارتس» الإسرائيلية تحدثت عن انّ اسرائيل غير متعجّلة نقل السفارة الأميركية، حيث أنّ الإدارة الأميركية أعطت الضوء الأخضر لنتنياهو للقيام بـ«تسونامي» استيطاني في القدس والضفة الغربية، فإقرار بناء الالآف الوحدات الإستيطانية في القدس والضفة الغربية، والحديث عن ضمّ مستوطنة «معاليه ادوميم» للقدس، والشروع في ضمّ مناطق سي والتي تشكل 60 من مساحة الضفة الغربية، قابلته الإدارة الأميركية الجديدة بالصمت دون أيّ إدانة او استنكار كالإدارات الأميركية السابقة، وهذا يعني بشكل واضح التقويض العملي والتفريغ للقرار الأممي 2334 من محتواه الخاص باعتبار الإستيطان غير شرعي في القدس والضفة الغربية، وفي المقابل نحن نلهث خلف القرار الخاص بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، وعندما تعمل الإدارة الأميركية على إرجاء نقلها أو القيام بعملية نقل متدرّج لها، نحن نستمرّ في الصراخ والعويل والندب والبكاء، والقول بأنّ ذلك يشكل انتهاء للعملية التفاوضية ومراجعة الاتفاقيات مع دولة الاحتلال، بما فيها سحب الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير و«إسرائيل»، وبأنّ أبواب جهنّم سوف تفتح، وبسذاجتنا وعاطفيتنا وقراءتنا للسياسة على أنها حساب وليس جبراً، نرى بأنّ إرجاء نقل أميركا لسفارتها، هو نصر ما بعده نصر للدبلوماسية الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولنكتشف بأنّ أبواب جهنّم تفتح علينا لا على أميركا ولا على «إسرائيل»، حيث الرئيس الأميركي ماض بخطواته وإجراءاته بحق العرب والمسلمين، وهم غير المالكين لإرادتهم وقرارهم السياسي، ولا يملكون سوى الندب والبكاء والإستجداء والقول لترامب نحن تلاميذك المخلصون ارحمنا، نحن لسنا إيران لكي نردّ على سياستكم بالمثل في ما يخصّ مسألة منعك لرعايانا من دخول أميركا، فإيران قوة فرضت نفسها عالمياً وإقليمياً، وهي قادرة على ان تمتلك قرارها المستقلّ، وبالتالي تمتلك القدرة على الردّ، اما نحن دوماً كنا تلاميذكم المخلصين، سلمناكم ثرواتنا وأرضنا وقرارنا السياسي، فلماذا تستمرّون في معاقبتنا وإذلالنا في قضية منع رعايانا من دخول أراضيكم…؟ هل هناك من يخدمكم أكثر منا، ألم نموّل حروبكم على بلداننا؟ ألم يشارك البعض منا في تدمير العديد من بلداننا استجابة لرغباتكم وقراراتكم؟ ألم نستقدم جيوشكم لكي تحتلّ أوطاننا؟ ألستم من تنهبون خيراتنا وثرواتنا وتقتلون شعوبنا، ونحن نطبّل ونهلل لكم فرحاً وسروراً؟
عندما تكون الحالة العربية منهارة، والحالة الفلسطينية منقسمة على ذاتها، وعندما تكون حالة العجز والـ»استنعاج» سيدة الموقف العربي، وعندما يتمّ استدخال الهزائم والتهليل والتطبيل لها على انها انتصارات كبرى وتاريخية، وعندما نعاني من عقدة «الارتعاش» السياسي المستديمة في التعامل مع أميركا والغرب الاستعماري، للحفاظ على عروشنا التي نخشى عليها من شعوبنا، التي نحكمها بالنار والحديد ونفقرها ونكمّم أفواه أبنائها ونحرمهم من المشاركة في القرار والسلطة، فنحن لن نستطيع ان نحقق أيّ انتصار جدّي في أيّ من قضايانا كبيرة او صغيرة، فها هو ترامب يتهدّدنا بأن تكون قواته الموجودة على أرضنا مدفوعة الأجر، لكونها توفر ما يسمّى بالحماية للعديد من المشيخات العربية، وهي في الأصل قوات احتلال، وهو كذلك سيشرع بتطبيق قانون «جاستا» من أجل السيطرة على الأموال والممتلكات السعودية في البنوك والأراضي الأميركية، وهو يتوعّد ما يسمّى بالإرهاب الإسلامي بالتصفية عن الوجود، ونحن لن نعرف الحدود والفواصل، ما بين ما يمكن اعتباره إرهاباً إسلامياً أو ليس إرهاباً، في وسم واضح على أساس عرقي ومذهبي للمسلمين على أنهم قتلة وإرهابيون، وهذا لولا مواقف العديد من المشيخات العربية الخليجية التي شكلت حواضن لهذه الجماعات التكفيرية والإرهابية وفكرها الإقصائي التدميري، ومدّها بالمال والسلاح والرجال لما تجرأ ترامب وغير ترامب على حقوقنا وعلى ديننا وعلى أرضنا.
وختاماً أقول في قضية نقل السفارة الأميركية او عدم نقلها، بأن الخاسر الوحيد من هذه التفاهمات الأميركية – الإسرائيلية بعدم إثارة نتنياهو للجلبة والغوغاء حول قضية نقل السفارة الأميركية، مقابل إطلاق يد إسرائيل في «التغوّل» و«التوحش» الإستيطاني في القدس والضفة الغربية، هم الفلسطينيون على نحو خاص، سواء نقلت السفارة أم لا، ففي كلّ الظروف ومطلق الأحوال، لا يكف «بلدوزر» الاستيطان عن نهش أرضهم وحقوقهم، وهو بات يعمل اليوم، بكامل طاقته، وعلى مدار الساعة، في ظلّ موقف عربي منقسم بين مرحب بترامب ومتخوّف منه، لا يجمعه سوى قاسم مشترك واحد: العجز عن مواجهة الأخطار والتهديدات التي تواجه «قضية العرب المركزية الأولى».
Quds.45 gmail.com