شوقي أبي شقرا «نسطع ولو زارنا الليل»..
اعتدال صادق شومان
«شوقي أبي شقرا يتذكّر»، إنه الحدث الثقافي الأبرز لهذا العام بلا ريب، مسيرة أكثر من ستين عاماً مع الشعر لعرّاب القصيدة النثرية، في مسار طويل تجاوزت الثمانمئة صفحة تعانق سنوات عمره الثمانين حولاً ونيّفٍ لأوراق العمر تعكس في مسارها وسياقها اعترافاً صريحاً يفسّر فيه كل ما دار في سريرته وكل ما حلم به وطمح إليه، بين حلمٍ، وصدى أحلام، ترداد صورٍ تشهد للعاطفة وللحنان.
وما كان يمكن أن يحدث لو تبدّلت الأفكار في لحظة وما فعله في حياته، وما الذي أسهم في تطوير وصقل أحداث حكاياه، تصريفاً، ونحواً، وفي إخراجها على شكل مذكرات يتداولها الناس على هيئتها من الحروف تنساب أحاسيس على عدد من الوريقات لا تختزل عمراً في بعض كلمات مهما كثرت.
هذا هو شوقي أبي شقرا اليوم يُطلّ علينا من ميدان المذكرات/ السجلّ ـ الوثيقة صادرة عن «دار نلسن» التي يُشرف عليها الزميل سليمان بختي، وعن مجلّة «الحركة الشعرية في المكسيك».
يتذكّر في البدء أبي شقرا على مدى 200 صفحة سيرته الشخصية منذ دهشته الأولى ونصوع الطفولة بين مزرعة الشوف ورشميا واليتم المبكر مع رحيل الوالد مجيد الدركي وقدوة أم قديرة الى الحب والزواج «بالحلوة» والحفاوة بالأبناء وما بينهما من أمكنة ومطارح مأهولة بطفولته ومنهله الاول على مقاعد الحرف والكلمة، في استعراض لذاك الأثر الذي تركته التجربة في كتابته الشعرية، وحواراته الثقافية، لحين زهوته بإطلالته الاولى على عالم الشعر بباكورته «أكياس الفقراء» من البرج، «اتبعه الساحر ويكسر السنابل راكضاً»، «حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة»، «لا تأخذ تاج فتى الهيكل»، «صلاة الاشتياق على سرير الوحدة»، «ثياب سهرة الواحة والعشبة».
أبي شقرا الذي عاش الزمن الأوسع والأهم في تاريخ ثقافتنا وكان على تقاطع وتفاعل مع غالبية رواد الثقافة منذ ستينيات القرن الماضي ولم يزل من تأسيس حركة «الثريا» فإلى انتمائه الى مجلة «شعر» الى النهار و«صفحته الثقافية» الاسم الذي أطلقه ولم يسبق أن جرى مثله على اللسان والكتابة يومئذ.
كل هذا، يسترجعه أبي شقرا صور ماضيه، يتذكّر الحروف الصور تشهد على الدهر والحصاد، شخصاً، وشاعراً، وهي «شهادة للتاريخ» هنا الاحتفاء باللغة ودرء عنها الشوائب، هي أنوار بيروت في أوجها الثقافي. هنا واحة شاعر. يعبق بحرية القلم على وقع التفعيلة المنفلتة من عقاب الوزن والبحر، بما هي تسجيل وجداني للانطباعات، التي قصد منها رصد حركات الناس من حوله، وتموّجات «الأنا» وارتكاساتها تجاه معاصرته أحْدَاثِ عصره ووجوه زملاء وملامح احبة، أما وقد طعن العمر في العمل وقوفاً على سفح المنصة العالية سلاحه القلم والخيال «الخيال الذي أوصلني إلى أبعد ما يكون، وهو الذي أرضاني وجعلني ما أكون قلمي الأحمر زينتي ودفتي الى المجهول الأزرق وكل الألوان. لا يعبس أبداً ولا يتبدّل بل يكرج وكم كرج في أصابعي الثلاث. فهو الحجل والغزال والهدهد الذي له عفرة صغيرة وشيء من الأناقة من اللون والريش».
وسط اهل الثقة المتحلقين حول دائرته كـ»السوار في المعصم» وقد «كثر أولئك الأصدقاء وهم في قشعريرة الكتابة وفي حومة الثقافة».. وقع أبي شقرا مذكراته في مبنى «جامعة الحكمة» ولم يخلُ الحضور من بعض غياب «يلوكه» عتب مع تسجيل حضور لرئيس ملحق النهار «الملغى» عقل العويط أغلب الظنّ تقديراً «للمعلم» ابو شقرا الذي قضى في «النهار» جلّ «مذكراته» وتجربته المديدة في المشوار الطويل قبل أن ينوء المكان تحت سطوة «المكانة الباسقة» «خلف ستار التقييم والكلمات المرسلة بتأنٍّ ورحمة».
تتمحور مذكرات أبي شقرا في فلك المحطات الأبرز في حياته. الصفحة الثقافية في النهار وشريكه في العرين أنسي الحاج، و«شعب النهار» وما أحلاه «فنحن اخوة ونحن كتّاب ونحن سطور وكلمات ونحن خبر أو قصيدة أو نص مرتفع العادة ونحن مؤلّفون».
ووجوه الأصدقاء «لا تفوته هناك» من زمن البدء الى الزمن الأخير، غير أن للذاكرة هناتها واغتيالاتها الغريبة، فغاب عن أبي شقرا وسط رهط الأسماء وجه أحمد شومان مجايله وزميله وأحد قياصرة النهار في زمانها المتجلّي، وأيضاً الياس الديري وصونيا بيروتي.. وهم من زمانه.
حول مجلة شعر والجدل «الأزلي»
كان تأسيس مجلة «شعر» وسعيها الدؤوب، الى قلب المفاهيم وتطويع اللغة وخلق عالم شعري جديد الى جانب التيار الذي تحلق من حولها خاصة من القوميين الاجتماعيين والسجال الذي يثيره دائماً، يظل واحداً من أهم الإسهامات و«الحوار الأزلي» والأكثر حضوراً حتى يومنا هذا، عن هذا الوجود المتمثل بـ يوسف الخال، محمد الماغوط، خليل حاوي، ادونيس، فؤاد رفقه، ونذير العظمة الى جانب استقطابها أسماء مختلفة من أمثال بدوي الجبل وجورج صيدح، وفدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوشي وغيرهم.. ولقد اعتبر العديد من النقاد العرب أن مجلة شعر بمثابة نقطة فاصلة في تاريخ تطور القصيدة، لأنها على الأقل استطاعت أن تثير الجدل الحاد والمتواصل الى يومنا هذا.
عن كل هذا يقول شوقي: «عن مجلة شعر في بيروت الملهمة التي استقبلت المجلة بنصف ترحاب أولاً، وبأكثر من نصف على الأحسن… وطالما كان الافتتان على صفحاتها وعبر قرائح الشعراء الذين شاؤوا صهوتها ليكون الأمر كامل الجدّ وكامل البلاغة ويقول الصديق الرئيس القومي جبران عريجي وسواه من الذين رأوا ما جرى وما يجري أن نفراً من القوميين من الحزب ومن الأقرب إليه من الذين كانوا في الداخل أو على قرب من المغامرة هم الذين جعلوا النشأة أن تكون خصبة، وهم الذين انطلقوا وأطلقوا الدعوة إلى ربوع مجلة إلى ربوع الشعر والكتابة الحديثة.
وصحيح ما يقوله عريجي وآخرون في مَن هم الذين صنعوا ما صنعوا من أسس لتعلو المجلة وتنطح السحاب. وصحيح أن الذين التقوا لم يكونوا قوميين كلهم، بل لعلها الصدفة الزمنية والواقعية هي الغالبة في هذا السياق. وكان أن بعض الشعراء أتوا من خارج الحزب القومي من الوطن الذي ليس صغيراً في هذا الباب، هذه الحلبة وكان أنهم رفدوا الآخرين ما رفدوا من نهر الإبداع ومن كونهم أشجاراً في المطلق في أي رهان وأن يوسف الخال كان في الالتزام وخرج على نفسه وإلى عالمه، كما أن أدونيس كان ما كان ثم انضوى إلى الالتزام الحر، وكان من قبل يحمل الحزب في كيانه وله لفتات في هذا الخصوص، وأيضاً نذير العظمة الذي مشى في الرواق وظل وفياً، وأيضاً فؤاد رفقة قبل أن يرحل كان من الأقربين وكان من الذين عربشوا طويلاً على المركبة وعلى المرساة وما فارق يوماً كونه ينتسب إلى التفكير الشامل الذي وإن انفرد وسار على ذوقه ظل مثابراً على الروح وعلى الثقافة التي يريدها الزعيم والتي ساق ما ساق من البرهان ومن الدلائل ومن الاحتمالات الكبرى.
أبي شقرا و«البناء»
تفتخر جريدة «البناء» أنها تمكنت من اضافة اسم شوقي ابو شقراء الى لائحة كتابها برتبة شرف في مرحلة إعادة إصدارها مجدداً في بيروت كجريدة يومية في العام 2009، حيث استضافت قلم ابو شقرا على صفحتها الثقافية. وقد خصّ هذه المرحلة في مذكراته بنشره ملحقاً كاملاً بمقالته التي نشرت له في «البناء» ما بين 2010 و 2011 حمل عنوان « نسطع ولو زارنا الليل».
ولم تكن هذه التجربة الأولى لأبي شقرا مع القوميين وهو الذي عايش بعضهم كونهم زملاء مهنة وندماء ثقافة وأركانها وقد خصهم أبي شقرا في سجله هذا، يوم وهم من خلف أسوار السجن العالية وأبوابه العتية تمكّنوا من إيصال مكنون افكارهم الى النهار التي تلقفتها بسخاء وتعامل معها أبي شقرا «بشفاعة» حفظها له القوميون، وما نسوا، يقول أبي شقرا عن تلك المرحلة:
«وكان أني في هذه الفسحة المشرعة جريدة السياسة.. عبدالله اليافي سمعت مديحاً من انعام رعد السياسي والناقد الكبير ونحن حلقة صغيرة وكنا نصغي وقوفاً وأظنها جرت في مبنى جريدة البناء وأظن أن أدونيس كان أحدها. وقال رعد إنه شكرني لأني أقدم القوميين على الصفحة الطالعة ومن هناك تنشرون.
وانعام رعد من الكتاب المتضلّعين من علوم السياسة، وكيف هو يموج وإلى أين وإلى أين يطمح وإلى أين يسير، إن في الدجى أم في الأجواء المختلفة؟ كان على صلة بي كانت متينة منذ جريدة النهار ومنذ الملحق، حيث له مساهمات من البحوث غالباً إلى موضوعات كنت أطلبها وهو يبعث بها أوراقاً ملزوزة الخط وكثيفة السطور والتوقيع قيس الجردي أزهو في السجن وكان به الحافز والشوق إلى الكتابة المضيئة في ذلك الوقت.
وهو عندما دقت ساعة الحرية، واظب على زيارتي وعلى أوراقه
وأما سبع بولس حميدان فهو أيضاً كتب أبحاثاً يرسلها بهذا الاسم. وهو كما يعرف الجميع أنه أسد الاشقر الذي له باعه واقتداره في الشأن الحضاري، وقيل إنه كان ينغمس في موضوعه هذا الى حيث الانبهار، وحيث تلك الحضارة هي تقوده وتجعله يطوف ويغرق في بلادنا, وفي أننا أغنياء الى مدى كبير.
وأنطون سعاده لعله الأوفر بحوثاً في هذا الشأن الحضاري ومن هالته إلى هالة الحزب التي كانت ترفرف على بعض شعراء مجلة شعر.
وليس القوميون وحدهم. وليسوا فرادى في ما هي المغامرة وفي دفع بعض الشعراء دون آخرين الى الواجهة الى المقدمة والى أن ينالوا الشهرة الواسعة. وكان عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب هما من عليّة القوم لأن الحزب كان هنا وكان القطار الذي مضى محتوياً سماء ومحتوياً من استفادوا منه ليكونوا في الربيع الدائم وفي خيمة من الأنس والرغبات الجميلة والتوفيق المجاني.
أما بعد… «شوقي ابو شقرا يتذكّر» حصاد وفير وثري صحافياً وأديباً.. وشاعراً يكتب الشعر مجدّداً ودائماً في المكانة الأصيلة للكلمة «راعية وأقحوانة في السهول ولا تخجل أن تتعرّى» ليجدد أبي شقرا القول بأنه قد: «تتساقط الطيور والثمار وليس الورقة».