المنجز الشعريّ لفاطمة الزهراء بنيس: فتنة الحرف في معانقته للمستحيل
أحمد الشيخاوي
مقلّة هي المغربية فاطمة الزهراء بنيس، وإن قلّصت من وتيرة حضورها الإبداعي في الآونة الأخيرة، فإنّها تظلّ قامة باسقة ومغرية بالقطوف على الدوام، كما ثروة تزاوج بين المعرفي والجمالي حدّ المراتب الإرباكية والمشاهد المفجّرة في المتلقي فضولاً من نوع خاص، والمستنبتة في ماهيّته، فسائل شحذ الذائقة وتهيّئها للرواء المستحيل على حدّ تعبير شاعرتنا في إحدى تصريحاتها. الرواء المتقلّب في قزحيته وأقنعته الإيروتيكية من نصّ لآخر كامن في همسات اللون.
تلكم خصوصية الشذوذ عن الجيل منذ مطلع التسعينيات، تلتها نزعة التدرّج في استقطاب المعاني المهجنة والنهل من كنوز الرموز والعمالقة بغرض التأصيل لثقافة مغايرة وراقية تحرّر الجسد كليّاً وتنتشله من قفص الدونيّة والاتهام من قبيل ما تمليه تعاليم المجتمعات المحافظة.
قصائد تبرز تباعاً لتغزو مخيلة عشش فيها الكبت العاطفي طويلاً، فتثير القلاقل وتخلّف الزوابع لتؤكّد ألا مناص من لغة جديدة واستثنائية تلبّي تطلّعات مختلفة تروم مناهضة التيّارات المتحجّرة ومجابهة فلسفة وأد الأنثى بشتّى آليّاته وتوصيفاته وتمظهراته.
«تدخّنين
بياض الليل
بين ثنايا الكتب السامقة
ثم تنفخين
هوس الحروف».
فلنتأمّل جغرافياً التشكيل هنا، وكيف أن القاموس يحتاج إلى دربة تخول عبر الفعل الإبداعي انتقاء الألفاظ المانحة لهذه الجغرافيا اللون الأنسب، بمنأى عن ضروب الاعتباطية والإرتجال.
الرئة صدئة بما تستهلكه، بينما الحل الوحيد للظاهرة الواشي به تقابل تدخّنين ـ تنفخين، متبلور في الأساس بخلق توازن بين منطق الاستهلاك والخيار الإنتاجي والإيجابي. لذا فإن طبيعة ما نمنحه من معدن ما نتلقّنه وهذا بديهيّ جداً.
هناك ليل مخيم بهيم ليس يحشو بياضه على نحو الصوت فيه للأنثى المتمرّدة على المألوف الموغل في انتقاص أدوارها، غير أحرف تستقطب من مرجعيّات ضاربة في العمق الإنساني، ثنايا الكتب السامقة. لا الزائف والأشبه بالزبد والفقاعات وكل ما هو أعجز عن الصمود أمام عوامل التعرية.
«سارحة
تسامرين قيس
تسكنين في لوعته الكآبية
تصيرين ليلى
من أنينها
من وشاحها
من صهيل قبيلتها
ت
م
ر
ق
ي
ن
تتدثرين
جحيم رامبو
تقعدين الجمل
على ركبتيك
من هول اللذة اللامتوقّعة
تنتهكين
عتمة وقارك
أميرة البرق
تبزغين
من رحم سحيق
وكي لا تنفلت حبالك
من مملكة الغيم
تعوّدين تفاحك
على طاعة الحلم.»
السياق المثالي اقتضى إقحام رموز العذرية ضمن تراكيب وصور معينة ترمي إلى نسف الذرائع الواهية باعتبارها مجرّد شمّاعات تتيح المزيد من مساحات المماطلة وبسط أصوات جلد الأنثى وسبيها رمزياً تبعاً لهيمنة ذكورية وعنترية وفحولة عرجاء تستمدّ أو تحاول مشروعيتها من قداسة نواميس الطاعة العمياء، من مملكة الغيم تعوّدين تفاحك على طاعة الحلم.
«بلهفة الذي يرى ما لا يُرى اعتلي عرشيَ الافتراضي
ليس بحوزتي غير جنوني الشّعري وبعض الحدوس الفطرية
تائهة بلا هوية
الهوية احتياج المحاصر في جغرافية العدم
وأنا ودّعت حصاري مذ قطّعت حروف اسمي شذرات بلا معنى
وبات وعيي في خبر كان
طائعة لرغبة الغريب فيّ…
خائفة من هول مبتغاي لكنني مستلذّة بصعودي نحو المجهول
بتمكّني من ملامسة حلم الأنوثة الأحمر
صحراء كنت قبل تحوّلي إلى هرمونات عاشقة
غارقة صرتُ لمّا استسلمت لنداء المسامات
كلّما انخفض إيقاع الشغب جدّدت كحل العين وهمست:
ياااا».
هذا النداء المفتوح على الغيبيات بدافع خلل اجتماعي وشروخ ثقافية تعمّق هوّتها العقلية الخاضعة لفقه تسييد المعتقد المحنّط بقدسية وهلامية الفحولة.
ومن ثم مكابدة قسوة جغرافية العدم كلون من جرأة تكتسبها الذات الشاعرة تدريجياً في مقاربة الجرح المختزل في ضياع الهوية. تلكم سندبادية لملمة أو محاولة لملمة معاني اسم مكابر وممانع وعصيّ على عدا ما يؤمن به ويُشبع قناعاته ومستلذّ بارتقاء سلّم المجهول في تمرّد واحتجاج صارخ على هذا الغريب المتباهي بمطلق طاعة النوع الآخر له عندما يتعلّق الأمر بالجنسانية والمائية والأواصر الوجدانية إجمالاً.
لذا نجد فلسفة شاعرتنا تنطلق من كنه ما يقلب المعادلة رأساً على عقب، ويمكن من ملامسة حلم الأنثى الأحمر أو الناري، وينقّح معطى جدلية صحراء رواء والتحامها مفاهيمياً بما يعكس ويترجم أوجه التضاد والتنافر الحاصل بين النوعين.
«أناديك فقط لترنّ حروف اسمي
أشتهيك لا لأنني أشتهيك بل لأنني أشتهي ذاتي
ربّما تقول عني نرجسية، فلن أجادلك
قل عني ما
ما شئت
مغرورة، طيبة، جميلة، عميقة كبحر
متوترة، منثورة ومبهمة كقصيدة نثر
لن أجادلك
منفردة بذاتي
لا أسال كيف؟ ولا متى؟ ولا أين؟
أصلّي جحيمي في جثة ضلّلتها قروناً مرتلة آيات من القلب الظمآن.»
مناداة مشروطة باستنطاق الهوية عند حدود الفرادة الذاتية التي تقرن اشتهاء الآخر بحتميّة القفز على السائد ورواسب قرون جسدنة زوايا النظر إلى حواء.
هنا الخطاب مفخّم ومغرق في نرجسيّة مقبولة دالة على أهداف إنسانية تنمّ عن بصيرة تتفادى فخاخ الجدل والمتاهات لتتفشى في آفاق المنطق والمحاججة الدامغة والإقناع.
«وكما كنت تحلمين أعرّيك ذرة، ذرة
بمجاز أصدق من الحقيقة
غلقت من هباء
فأعدت خلقك من جنون
الشعر والحبّ شاهدان على خلقي لك
والنجوم كانت بجواري
ليلة كنت نصفك
تجادلين الغيب عن نصفك الآخر
لم تدركي حينئذ أن الاكتمال فناء
وأنّ ملاقاة الذات انصهار في ملكوت الجحيم
ولأنّك لامست عرش الهواء
أشيّعك بألحاني الغجريّة
وعلى وتر مجهول الهوية أرقص آخر نفس فيك
ترقصين ترقصين
تترندحين، ثم تسقطين
شهيدة رغبتك
رغم كثافة الموت فيك
إيّاك والحنين
إلى هداة الصفر
الصفر حسّ فاتر المضمون
لا يليق برغباتك
يا سيدة الرغبات
دعي نفسك الأمّارة بالنزوح
في المابين
بين السماء والأرض
ما بين الحلم ونقيضه
في قلعة مستعصية المنال
لا يفتحها
إلا من غاص المحال
دعي نفسك في ما أوتي لها من جنون
وتمادي
تمادي في مدح حرائقك
لأنّك تستحقين المديح.»
الموت في كثافته والذات في حرائقها، لا ريب هما صانعا كلّ هذا التحوّل نحو مضمون ما ليس فقط على مستوى الحلم، بل يتجاوز ذلك إلى فبركة وواقعية نابضة بما يتجسّد به النقيض، تماماً، لتعاليم هداة الصفر.
فالرغبة منذورة للتعرية والكشف وإماطة الأقنعة، لا تفخيخها وطلسمته بمزيد من العقد والتابوات.
«بلا جسد كنتُ
روح عابرة
في رحم سحابة .
بلا جسد كنت
لا قلب يئنُّ
لا قدم تركض
لا يد تلوّح للمستحيل
لا عين تُمطر
ولا شفاه تنفرج .
بلا جسد كنتُ
روح راقصة
في عراء الكون.
وحينما انكشف سرّي
حمّلوني جسداً
لا يشبه دمي
ومنحوني اسماً
تضيق فيه روحي .»
فالرغبة منذورة للتعرية والكشف وإماطة الأقنعة، لا التفخيخ والطلسمة بمزيد من العقد والتابوات.
شاعر وناقد مغربي