عمران الزعبي… سيرة ومسيرة
عيد الدرويش
قدر سورية أن يعيش فيها السادة والنبلاء، وسرّ انتصارها هؤلاء النبلاء الذين تصدّوا للهجمة الشرسة عليها… وفي مقدّمتهم ذو السيرة والمسيرة، الأخ الكبير عمران الزعبي المحامي والمحلل السياسي والوزير ونائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية… كنتَ السيف الدمشقي في مقارعة المتخاذلين والمتآمرين بحلمك واتزانك وهدوئك وعلمك ومعرفتك بسيرة كلّ واحد من أولئك الناعقين، وجلوسك ساعات طوالاً على الشاشات الوطنية، وأنت تتحدّث للناس وتبدّد خيوط المؤامرة، وتضع أبعاد تشابكاتها ومراميها وأهدافها، وحضورك لاقى استحسان المشاهد السوري والمواطن العربي.
كنتَ نبيلاً في حياتك… ونبيلاً في سيرتك العطرة… السوريون وقفوا بإجلال ووجوم في يوم وفاتك وفاء منهم لك… لأنك الوفي لوطنك… وإخلاصك لقائدك… والكلام الذي تردّده دوماً… لا يوجد رجل في هذا العالم أشجع وأنبل من السيد الرئيس بشار الأسد، وتذكر مواقف لك فيها معه، وتستمدّ منه الشجاعة في أكثر الأوقات حلكة، لأنه القائد والقدوة.
يصعب على المرء أن يكتب عن أخ كبير، ولا تعرف من أين تبدأ – وهذا ليس من باب العاطفة – ولكن من باب الكتابة عن رجل اختزل حياته عاشقاً وطنه وأرضه، منتمياً لتاريخه وحضارته، ولم يعد ملكاً لنفسه، ولكنه أصبح يعبّر عن كلّ حرّ ويمثل كلّ شريف. ولكن السهولة في الكتابة عنه بأنك لا تجد حرجاً من أين تتناول الموضوع. فهو واسع الطيف، وما نكتبه اليوم يعرفه الجميع، لأنه كان قريباً من قلوب الناس، عندما يحدّثهم على الشاشات الوطنية لساعات طوال صوته صوت الحق الذي كان صداحاً في كلّ ساح وميدان، ويقدُّ زاده من آلام الفقراء والمشرّدين، وتأسره دموع الثكالى والأطفال من ذوي الشهداء. والناس تثق به وهي تصغي إليه في حديثه، وتزهو وأنت تدافع عن الوطن، وتفضح مخططاتهم ودسائسهم وتجمع الناس بالكلمة الطيبة، وتزوّدهم بالتفاصيل كلها، ولا تخاف في الحق لومة لائم. هذه صفات الأنقياء والأتقياء في الوطن المقدّس والجليل، لأنهم لا يقبلون إلا رؤوسهم مرفوعة وجباههم عالية تعانق عنان السماء. وكنتَ في مقدّمة الذين انبروا في مواجهة هذه الحرب الظالمة والمدمّرة، وأنت خارج السلطة. وعندما استوزرت الإعلام أسرجتَ خيول الكلمة وأطلقت عنان العبارة، لتفضح كلّ خوان حنيث. وبعد أن كثر السحرة تُخرج عصاك فإذ بها تلتهم كلّ أضاليل الخيانة والمتآمرين وتعريهم، وأنت الذي تعرف سيرة كلّ شريف ونبيل، وتعرف سيرة كلّ خائن ودسيس. ولا تكنُّ كراهية لأحد مطلقاً، وتفترق معهم على الوطن، وغير ذلك كلّ شيء قابل للنقاش. كثيرون من يحبونك، حزنوا على فراقك، وأنت باقٍ في ضمير هذا الشعب، وأصبحت قامة وطنية، ورجلاً من رجالات سورية في العصر الحديث. ومن المحال أن أجد لك كارهاً أو عدواً، حتى من يخالفونك يحترمونك بما تقدّمه من قرائن ووثائق وبراهين.
حباك الله كاريزما الرجل القيادي، والوجه المحبّب للجميع، والواثق من نفسه، ومن النصر الأكيد. فقد تكاملت في شخصيتك عناصر عدة منها أنك تربّيت تربية حسنة، واشتدّ ساعدك عليها. فالأصالة جينات والخيانة جينات. ودراستك للحقوق صقلت ذاتك في معرفة الشعرة بين الحق والباطل. والمعروف أنّ القوانين والحقوق هي صفوة أخلاق الناس مكتوبة في ما بينهم. وقد شمّرت عن ساعديك لتدافع عن وطنك في أكذوبة اغتيال الحريري وما تبعها من اتهامات وذرائع، واستطعت بمبضع القانون أن تستأصل الورم الخبيث الذي زرع لفتنة بين سورية ولبنان.
كم تحدثت عن كواليس «جنيف 1» وكشفتَ المستور لمخطّطاتهم وتآمرهم على سورية، في وقت كانت المعركة حامية الوطيس في الميدان والسياسة، فكنت كالنسر تدير معركة السياسة بكلّ حلم ومقدرة، لأنك تمتلك الحق والحقيقة، كما تحدّثت أيضاً عن تفاصيل وأبعاد كلّ مادة كيف صيغت في الدستور 2012 وكنت المشارك الفاعل فيه ليكون من أفضل الدساتير الموجودة في العالم.
وقبل أسبوع من رحيلك تدفعك روحك لتزور مثواك الأخير في مقبرة باب الصغير في دمشق بدون أن يعلم أحد، وتتفقده بنفسك. وكنتَ على يقين أنّ النصر قد لاح واكتملت معالمه، وتطمئن على وطنك وهو يتعافى من الإرهاب، وتنحسر المؤامرة مُدبرة إلى غير رجعة.
لم تقل لأحد… لا… أبداً ولم تزعج أحداً أبداً. وما في جيبك ليس لك وإنما للمحتاجين، لأنّ في عرفك وشهامتك هو أخ لك في الإنسانية… هكذا كانت الحياة في نظرك، ولا تنام إلا وتقضي حاجة سائلك عاجلاً أم آجلاً، تلك صفات الإنسان النبيل والمؤمن.
عملت معك في الجبهة الوطنية التقدمية، وأنت الذي لا تهدأ من العمل، وتوصل الليل بالنهار ولا حدود لك بالدوام. كان الهاجس هو العمل والإنجاز والتميّز بما فيه خدمة الوطن والمواطن، وكنت وطنياً بامتياز، وتحثّ الخطى، كي تواكب مسيرة سيد الوطنية السيد الرئيس بشار الأسد حفظه الله ورعاه.
والطرفة لا تفارق حديثك في الاجتماعات واللقاءات، والمعرفة العميقة والخبرة الواسعة تشق طريقها، حيث تضفي على الجلسات المرح والمداعبات الكلامية التي تفضي على الجلسات التحبّب والبهجة، لأنك كنت سعيداً من الداخل وتحبّ أن تمنح السعادة للجالسين معك.
تتحدّث عن الشهداء مساواة بالأنبياء والقديسين، لأنّهم طهر هذه الأرض. لا تستهويك سيرة كلّ أفّاكٍ زنيم، ولا مواقف كلّ خائن وفاسد. وكنت تقف كثيراً عند كلمة فاسد، فتراها لا تفي صاحبها حقه، وتؤكّد على كلمة «لص». وفي كثير من اللقاءات التي كانت في المحافظات كنت توجّه السادة القياديين أن يقتدوا بمُثل وقيم السيد الرئيس بشار الأسد بأن يلتقوا مع الناس لأنّ الناس لها كرامات، والكثيرون منهم لا يطلبون، وهم بحاجة للمساعدة وفي مقدّمتهم ذوو الشهداء، هؤلاء من أنبل الناس ومن أطهر الناس، وقد قدّموا أرواحهم ليحيا الوطن.
لا أدري كيف كان ذلك التخاطر لنفسك قبل أيام من وفاتك، وكنا في اجتماعات متواصلة مع المكاتب السياسية للأحزاب، كنت تعبّر عن مقارنة ذكرتها، وبما عرضت عليك بعض المغريات حينما كنت وزيراً للإعلام، وتستهزئ بهم إذا أعطوك مليار دولار أميركي، وتشترط عليهم وساخراً أن تحوّل هذه المبالغ إلى مصرف سورية المركزي، وكم حدّثتنا بأنّك قد اشتريت لك قبراً إلى جانب مثوى والدتك، وتجري محاكاة بقولك كيف إذا خنت وطني وتركته؟ ويأتي من يأتي إلى جانب قبر أمي وتقول مَن هذا الراقد بجانبي؟ وماذا ستقول والدتي عني؟ فأنا لا أعقَّ والدتي ولا أخون أهلي ووطني… كنت تبوح من الداخل عن منظومتك القيمية التي نشأتَ عليها وآمنتَ بها. فكنت الصادق في سرّك وعلانيتك… لتنام قرير العين وتختم رسالتك بما آمنتَ به ووفيتَ وعدك، وتقرّ عين والدتك التي أرضعتك حليب الطهر والنقاء، وعدتَ إلى حضنها للأبد.
هذه سيرة العظماء… وهذه سيرة الشماريخ في التاريخ…
أمين سر الجبهة الوطنية التقدمية في سورية