أفغنة الدين..حضارة ما بعد الحداثة
نظام مارديني
قليلة هي القراءات والتحليلات التي كشفت ضعف الفعاليات المجتمعية حيال الإرهاب، وما يمكن أن يتفرّع عن تلك اليقظة المطلوبة من المواطن بوصفها العامل المساعد لدرء النشاط الإرهابي وتغلغله الفكري في متحداتنا في أطراف المدن والمحافظات، في سورية والعراق..
فقد أدى العدوان القائم على سورية منذ أكثر سنوات سبع إلى كشف أن فشل الدولة الحديثة في بعض مؤسساتها ورثاثة بعض النخب الثقافية، أسهما الى حدٍّ كبير بتسلل «المُتديّن الأصولي» الى مجال التأسيس السياسي، بوصفه ممارسة تبرر شرعنة العودة للأصول، ولصيانة العقائد من كفرنة الحداثة والعولمة والغربنة.
فالسياسة التي فقدت الكثير من مجالها النظري وتحوّلت مجالاً صراعياً غامراً بالعنف وفرضيات القوة، أفقدت أيضاً التديّن الكثير من بريق روحه السمحة، لتجعل منه خطاباً عُصابياً للأصوليات والخنادق والفتن، وما المظاهر الخطيرة لعنف الجماعات الإرهابية، إلّا دليل على طريق شرعنة «الموت العلني» للدولة المدنية والهوية المدنية.
إن الأدلجة العُصابية للتدين وضعت العقل الثقافي في سورية والعراق «السوراقي» والعربي أمام تعويمات التاريخ، وأمام وهم سلطته، ورهاب خطابه، حيث عطالة العقل النقدي، وحيث ضعف مؤسساته ومرجعياته،.. وهي لذلك أعطت للقوى العنفية هامشاً لتكفير الحداثة والديمقراطية، وتأثيمهما بوصفهما بدعة غربية ليس إلا.
كما أن غلبة النزعة «الطوطمية» للأصوليات على العقل الاجتماعي، وضع الأداء الديني لها داخل أطر مغلقة، إيهامية، ميثولوجية، وعبر تشكلات طقوسية تتكرّس فيها مظاهر عبادية محدّدة، وصور ناشزة تحوّلها قوة مرعبة لتهديد قيم الحداثة والتنوير.
جاء عصر «الربيع العبري» ليحمل في داخله عمليات القتل الهوياتي والتطهير السياسي والديني والطائفي. ومهما تعدّدت أنماط العنف والقتل الجماعي الدائر الآن في سورية والعراق، فهي تؤكد بما لا يقبل الشك انكسار إنسانية الإنسان «السوراقي» للاحتفاء بكل ما هو وحشي في الحياة. حيث لم تشهد الأزمات والحروب الطاحنة في التاريخ هذه الكمية من الجثث الفاقدة الهوية والتي قتلت على الهوية وعمليات التمثيل والذبح وتقطيع الأطراف وتفخيخ الجثث. هذه التصنيفات الثقافية بحد ذاتها تحقق انتصاراً مروعاً للوحشية، وإبادة المختلف دينياً وطائفياً وسياسياً وعرقياً وانطلاق الحيوانية من عقالها وسيطرتها على التاريخ.
لم يعُد الدين ديناً واحداً مثلما هي محاولة إيهام المجتمع «السوراقي» أنه شعوب وليس شعباً واحداً ، بل هو مجموعة أديان اجترحتها مراكز الاستخبارات الغربية والصهيونية والرجعية العربية.. لا! لم يعُد الدين نظاماً روحياً وأخلاقياً تتغذّى منه المجتمعات ويعمل على تأصيل النفس البشرية، بل أصبح نظاماً سياسياً صمّمه المجانين على مقاساتهم.
إن هلالنا السوري الخصيب أحوج ما يكون الآن إلى ثقافة وطنية عامة توحّد ولا تفرّق، لا إلى ثقافات منعزلة ومشحونة بالكراهية، ثقافة تطلق الإمكانات ولا تحجّمها، ثقافة لا تلغي أو تقصي، بل تنفتح وتتفاعل لتعزيز شعور المواطنة والمسؤولية لدى الجميع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم.
يقول الشاعر العراقي خزعل الماجدي في «أحزان السنة العراقية»:
كم غراب سيأتي لهذي البلاد
بلحيةٍ وثوب قصير وكتابٍ فقهي أسود؟
كم كأسٍ من السمّ سيحمل معه؟
وكم طفلٍ سيأكل؟