غزة المنكوبة بالحرب والمعذبة بالهدنة
د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يكد سكان قطاع غزة يتنفسون الصعداء بانتهاء العدوان الإسرائيلي عليهم، الذي شن عليهم أسوأ وأشد حربٍ عرفها الفلسطينيون من قبل، استخدم فيها أخطر وأقوى آلات القتل والتدمير التي تملكها أحدث الجيوش العالمية، التي تقتل بوحشية، وتدمر بغباء، وتسحق بعمى، وتبيد بجهلٍ، ولا تفرق بين الأهداف، ولا تميز بين المقاتلين والمدنيين، ورغم أن الفلسطينيين أعلنوا بصمودهم وثباتهم انتصارهم في هذه المعركة، إذ أنهم أفشلوا العدوان، وأحبطوا مخططاته، وأجبروه على إنهاء القتال، ووقف كل العمليات الحربية ضدهم.
إلا أن واقع حالهم بعد الحرب كان أشد وأنكى، وأسوأ وأخطر، وأكثر وجعاً وإيلاماً، وأعمق جرحاً وأكثر نزفاً، لكن أحداً لم يأبه بهم، ولم يهتم لشأنهم، ولم يسمع لشكواهم، ولم يرفع الصوت انتصاراً لهم، وتأييداً لحقهم، فقد هدأت أصوات المعارك الحربية، وغاب هدير الدبابات، ودوي القنابل، وعادت الطائرات الحربية أدراجها إلى مطاراتها، وسكنت المدافع في مرابضها، تاركين الفلسطينيين في غزة يلعقون جراحهم، ويشكون حالهم، ويعانون من عدوهم وجارهم، ويألمون من صديقهم واخوانهم.
يعيش سكان قطاع غزة حالةَ كربٍ قاسية، ومحنةٍ حقيقيةٍ، إذ على الرغم من التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، إلا أن شيئاً من الواقع لم يتغير، كما أن شيئاً من الوعود الدولية لم يتحقق، وما زالت الوعود التي تم التوافق عليها مجمدة، ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ.
الحرب قد تسببت في دمارٍ واسع، شمل مناطق بأكملها، وأدت إلى إزالة أحياء كاملة، ودمرت كلياً وجزئياً آلاف البيوت والمساكن، الأمر الذي أدى إلى نزوح السكان، ولجوئهم إلى المدارس والمساجد وأماكن الإيواء العامة، رغم أنّ عشرات المدارس والمساجد قد دمرت أيضاً، وقد استهدف بعضها أثناء وجود اللاجئين فيها، مما زاد في تعقيد المشكلة، وفاقم من سوء الأوضاع.
الحقيقة التي يجب أن يدركها المجتمع الدولي أن سكان قطاع غزة يعيشون هذه الأيام حالاً سيئة جداً، ويعانون من أكثر من جانب، وهي معاناةٌ أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الحرب، فقد ضاعفت عملية تدمير آلاف المساكن والبيوت، وعدم وجود أماكن إيواء كافية ومناسبة، من معاناة السكان، في ظل دخول فصل الشتاء، وبداية انخفاض درجات الحرارة وسقوط الأمطار، علماً أنّ قطاع غزة يعاني أساساً من عجزٍ في البنية التحتية، خاصةً في ما يتعلق بالخدمات العامة ومجاري الصرف الصحية، الأمر الذي قد يتسبّب في حدوث سيول كبيرة، وتجمع كمياتٍ كبيرة من مياه الأمطار في الشوارع العامة، التي تدخل أحياناً إلى البيوت والمساكن، خاصة أنّ أغلب بيوت قطاع غزة أرضية، وليست مهيأة لمواجهة الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة.
وزاد من حجم المعاناة قيام الحكومة المصرية بعد انتهاء العدوان بإغلاق معبر رفح الحدودي بالكامل، حيث منعت انتقال المسافرين من وإلى القطاع، ولم تستثن أحداً، حيث شمل قرار منع السفر المرضى والمصابين، والطلاب والموظفين وحاملي الإقامة والعرب والأجانب، ومن لديهم دعوات للمشاركة في أنشطة عامة، ومؤتمراتٍ دولية وغيرهم.
كما أقدمت الحكومة المصرية على بناء منطقة عازلة بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية، بطول 14 كلم، وعرض أولي 500 متر، ونهائي ثلاثة كيلو مترات 3000 متر ، حيث تنوي شق نفقٍ مائي بعمق 500 متر على طول الحدود الفاصلة بين القطاع ومصر.
وقد قامت خلال عملية بناء الجدار العزل بهدم مئات البيوت التي تعود إلى عائلاتٍ مصرية من أصلٍ فلسطيني من سكان مدينة رفح، وأجبرتهم على الانتقال إلى أماكن جديدة، وإن كان أغلبهم قد فضل الانتقال إلى مناطق أقربائهم، بعيداً عن مشاريع الحكومة التي يرون أنها مذلة وغير مناسبة، وأنها تفتقر إلى أبسط وسائل الراحة والسلامة، علماً أنّ عملية التدمير قد شملت إلى جانب البيوت والمنازل، المزارع والمعامل والمساجد والمؤسسات العامة وغيرها من المباني التي تحول دون حركة وانتقال الجيش المصري في منطقة رفح، حيث يبدو أنّ الحكومة المصرية بصدد إنشاء منطقة أمنية كاملة، تكون خالية من أي وجود مدني فيها.
تبرّر الحكومة المصرية هذا الإجراء بأنه بقصد حماية حدودها من أي عمليات تهريب وانتقال من الجانب الفلسطيني، ولمنع أي محاولاتٍ للهروب من مصر إلى قطاع غزة، خاصة إثر اتساع دائرة العنف في صحراء سيناء، وصدور تقارير أمنية عديدة تشير إلى احتمال قدوم المنفذين عبر الأنفاق إلى رفح، أو هروبهم منها إلى قطاع غزة.
يقول مراقبون إسرائيليون أن الأوضاع الأمنيّة على حدود قطاع غزة أصبحت قابلة للتصعيد بشكل كبير، وذلك على ضوء الإجراءات المصرية الحديدة وإغلاق معبر رفح، بالإضافة إلى إغلاق «إسرائيل» لمعابرها التجارية، الأمر الذي من شأنه أن يحشر حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية مرةً ثانيةً في الزاوية، ما قد يؤدّي إلى تصعيد الأوضاع بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال.
ويرون أنّ من شأن هذه الإجراءات القاسية أن تزيد الخشية «الإسرائيلية» من زجّ قطاع غزة للحرب ثانيةً، مما قد يدفع إلى اشتعال الوضع مرة أخرى بين «إسرائيل» وحركة حماس، معتبرين أنّ الذي يمسك بفتيل الحرب هذه المرة هما الجيش الصهيوني والنظام المصري الحاكم، وعلى الجميع التنبّه إلى خطورة الوضع القائم في غزة.
غزةٌ منكوبةٌ بالحرب، ومعذبةٌ بالهدنة، ومحاصرةٌ من العدو، ومطوقةٌ من الصديق، ومحرومةٌ من قيادتها، ومعاقبةٌ من محيطها، وهي منزوعةٌ من عمقها، وقصيةٌ عن أهلها، تصرخ بعالي صوتها، وتنادي بكل أملها، تستنهض الضمائر الحية والقلوب الرحيمة، لينقذوا غزة وأهلها، من حربٍ ضروس، ومن جوعٍ قاتل، وتخليصها من قتلٍ سريعٍ وموتٍ بطيءٍ، ومن معاناةٍ قصيرة وألمٍ ووجعٍ دائم، والوقوف إلى جانبها ضدّ عدوٍ لئيمٍ ومحيطٍ خائفٍ ولا يرحم.