الوطن

لتأليف الحكومة اليوم قبل الغد حتى لا يطيح بها شيطان التفاصيل

} علي بدر الدين

لطالما تفاءل اللبنانيون، وصدّقوا الوعود، وأملوا وحلموا، وصبروا وتوقعوا الفرج القريب، ليس علامة رضى وقبول، أو ثقة بالطبقة السياسية الحاكمة المجرّبة والمختبَرة أفعالها وسياساتها في إدارة شؤون البلاد والعباد على مدى

ثلاثة عقود متواصلة. إنما تقبّلوا هذا الواقع السياسي والطائفي والمذهبي والسلطوي والتحاصصي رغماً عنهم، لأنهم إذا لم يُحسنوا الطاعة والسكوت، فإنّ البدائل موجودة وكفيلة بتطويعهم، وطأطأة الرؤوس، وإلا فإنّ السوط والعصا، ووسائل الترغيب والترهيب، قادرة على ليّ الأذرع وقطع الألسن وضمان الصمت الأبدي.

هذه هي حال اللبنانيين الذين ارتضوا، الخضوع والخنوع والاستسلام لقدرهم وحكامهم و»أولياء نعمتهم»، الذين أوصلوهم إلى أسفل الدرك، وأغرقوهم في الحروب والمعارك والصراعات والفتن المتنقلة، تحت عناوين طائفية ومذهبية وزعائمية ومصلحية عامة زوراً وبهتاناً ونفاقاً. وأثبت زمن الحرب، وبعده «السلم» المشوّه وكذبته الكبيرة، في أيّ زمن يعيش فيه، وعلى وقعه الشعب اللبناني، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويعاني كثيراً، وقد بلغ الشوط النهائي لمسيرة الخطير، قبل سقوطه في هاوية لا قعر لها.

الطبقة السياسية، وحكوماتها وعهودها المتعاقبة التي حكمت البلد، بالحديد والنار، والفساد والتحاصص والسطو على أموال الدولة والشعب والمؤسسات بوجوه مقنعة، وتلوّن سياسي وطائفي، وتكاذب مخفي وعلني. ورغم ما اقترفته وارتكبته بحق الوطن والشعب، فإنها لم ترتدع، او يصحو ما تبقّى عندها من ضمير وحرص ومسؤولية، لتغيير سياستها، والتعاطي بصدق وشفافية مع هذا الشعب.على العكس تماما، فإنها أصرّت على الاستمرار في أدائها، وعلى نهجها الإفسادي والإلغائي والاستبدادي والتحاصصي بشعارات فارغة وجوفاء ومطاطة، ووعود كاذبة بامتياز، وقد أدمنت على هذا السلوك العدواني في تعاطيها السياسي وملحقاته، الذي حلّ بلاء ومعاناة وآلاماً على اللبنانيين.

لبنان الغارق بالمآزق والأزمات، والمحاصر والمديون، المنهار اقتصادياً والمفلس مالياً، يبحث عبثاً عن منقذ، بعد أن عرّته الطبقة السياسية والمالية، وسلخت جلده، وعرضته في سوق النخاسة الإقليمية والدولية بسعر بخس. غير أنه لم يجذب شارياً واحداً، لأنه بات عديم الفائدة، ومتسكعاً على أبواب الدول يستجدي المساعدة، والقروض والهبات، مقابل شروط قاسية ومعقدة، قد لا تنفعه، إنما تزيد من عزلته ووهنه وإضعاف مكانته بين الأمم والدول والشعوب. بعد أن كان «سويسرا الشرق» ودرّته، والجامعة والمستشفى والصحيفة والحرية والعدالة والقانون والمناخ المميّز والسياحة الممتعة، والجبل والبحر و»نيال من له فيه مرقد عنزة».

هذه المقارنة أو المقاربة بين ماضي لبنان وحاضره ومستقبله ومصيره برمّته، لن تشفع له، أو تحث أصحاب الحلّ والربط والشأن، الذين يحكمون الأرض وما عليها وما في باطنها، وحتى الذي لم يولد بعد، على التخلي عن عنجهيتهم وأطماعهم ونهمهم للسلطة والمال والقوة والنفوذ، والعودة إلى التاريخ المنعش والجاذب لوطنهم، وأن يتوبوا توبة أخيرة نصوحة قبل فوات الأوان، علها تنجّيهم من نار جهنم الموعودة، وتعيد البلد إلى أبنائه ووهجه وألقه.

على هذه الطبقة أن تكفّ شرورها عن شعبها، وترأف لحاله، وهو لديه الجرأة على مسامحتها، من دون ان ينسى مساوئها وكلّ ما فعلته به، وقد حرمته الأمن والأمان والاستقرار والعيش الكريم، وأفقرته إلى حدّ المجاعة، وانتظار إعاشة منها أو من الآخرين.

 بعيداً عن كلّ الحراك السياسي المحلي والإقليمي والدولي الذي يواكب أزمات لبنان، والرهانات الوهمية على مشاريع غير واقعية، ومبادرة من هنا، او تلميحة من هناك تحاكي المصالح والأجندات. فإنّ لبنان الذي يقترب من حافة الاحتضار، وشعبه الذي يختنق، أحوج ما يكون إلى ضخه بجرعات أوكسجين، لإنعاشه قليلاً، حتى لا يلفظ أنفاسه، ومن أهمّ الجرعات المطلوبة، اليوم قبل الغد، فتح الطريق الخضراء لتمرير تأليف الحكومة، من خلال المبادرة الفرنسية أو غيرها. أو اغتنام ما يسوّق له عن تقاطع مصالح إقليمية ودولية على ملفات معينة، أو في أمكنة ملتهبة على خريطة هذا العالم.

 بشر العهد والرئيس المكلف وعرابو التأليف بمؤشرات إيجابية طاغية على المشهد الحكومي، وأنّ الحكومة في طور الولادة المبكرة، في سرعة قياسية قد تدهش العالم، تواكبها بحملات من التسويق السياسي والإعلامي، والاستنفار غير المسبوق للسياسيين الداعمين، الذين كانت لهم اليد الطولى في تقريب وجهات النظر، وتضييق مساحات الخلاف بين القوى السياسية المتفقة على العناوين، والإسراع بعملية التأليف. لكنها تغرق الآن كما في الماضي، بتفاصيل صغيرة شيطانية، تعرقل التأليف وتؤخره، وقد تفضي إلى نسفه وتجميده، حتى إشعار آخر.

من الخطأ مواصلة ضخّ أجواء التفاؤل وتحديد مواعيد التأليف، والتسويق لإيجابيات ملغومة أو مطمورة أو ليست مبنية على وقائع وحقائق، بل على رغبات وتمنيات، إلا إذا كان الهدف منها تخذير الشعب أو زرع أمال وهمية لإستمرار غيابه، وانتظار المجهول.

انّ العمل بصمت أنجع وأفضل واضمن، وأقلّ ضرراً على الناس. والله تعالى قال: «أقضوا حوائجكم بالكتمان». كما أنّ الحذر واجب لتجنّب الحاسدين الذين لا يريدون الخير لهذا الوطن، والذين لا تبنى مصالحهم وتتحقق مشاريعهم الا في حال الفوضى والخراب والفساد، وهم كثر.

إننا على يقين انّ تأليف الحكومة، رغم ما يحيط بها من محاولات تجميلية، وشعارات براقة، وعناوين تتلألأ في الفضاءين الخارجي والداخلي، فإنها لن تختلف كثيراً أو قليلاً عن حكومات سبقتها، إنما ستكون على شاكلتها، في اجتثاث الحقائب، وفي التمثيل السياسي المغلف بالإختصاصي، وانّ ما يسمّى بالحقائب السيادية ستبقى، كما كانت في الحكومات الماضية، وهي وزارات المال والطاقة والاتصالات والخارجية والداخلية والدفاع، ربما يحصل تبديل في وزارتي الصحة والتربية.

المهمّ ان تؤلف الحكومة، إذا حظيت بموافقة القرار الإقليمي والدولي ورغبته في هذه المرحلة. أو التأجيل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعندها يُبنى على نتائجها المقتضى.

قد لا يكون الوقت في صالح لبنان الذي يختنق إلى حدّ بلوغه مرحلة «الكوما»، وهو عملياً في حال من الخطر الشديد.

 فهل هو قادر على التحمّل والصبر، أم أنّ للطبقة السياسة رأي آخر، لأنه من واجبها اتخاذ القرار الوطني الصعب من دون انتظار أو توقع الأسوأ، او الالتفات إلى الخلف، قبل سقوط الهيكل؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى