أولى

معركتنا مع الاقتصاد الريعيّ لا تزال مستمرّة…!

 د. محمد سيّد أحمد

تتوالى الأحداث متلاحقة ومتلاطمة كأمواج البحر سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي، وتجدُنا مضطّرين للتعاطي والتفاعل معها سواء سلباً أو إيجاباً، وعندما يقرّر الكاتب الاحتشاد للكتابة يجد نفسه في حيرة من أمره عن أيّ حدث بالضبط يكتب ويتعاطى ويتفاعل، وما يزيد الأمر ارتباكاً ويعظم أسباب الحيرة أن تكون الكتابة بشكل أسبوعيّ وليست كتابة يوميّة، حيث تزداد الأحداث والقضايا والموضوعات، لكن دائماً ما تحسم اهتمامات وتوجهات وانتماءات وانحيازات الكاتب الأمر برمّته، حيث ينتقي ما يرى وفقاً لما سبق أنه الأولى بالتناول والتعاطي والتفاعل، ووفقاً لذلك فقد فرضت التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية ـ الأوكرانية نفسها، حيث ألقت بظلالها على الاقتصاديات العالمية، ومنها الاقتصاد المصري، فقد ارتفع سعر الدولار في الأسواق المالية، وتبع ذلك غيمة سوداء خيّمت على الأسر الفقيرة في ربوع مصر، فلم يعُد الغالبية العظمى من المواطنين قادرين على تحمّل الارتفاع الجنونيّ في أسعار السلع والخدمات الأساسية في ظل اقتصاد ريعيّ يستهلك ولا ينتج.

 ويمكننا القول إنّ المؤامرة على الاقتصاد المصريّ قد بدأت منذ زمن بعيد، حين تمكّنت مصر بقيادة زعيمها وقائدها جمال عبد الناصر بناء مجتمعها من الداخل عبر مشروع تنمويّ حقيقيّ على مستوى الزراعة والصناعة والبنية الأساسية مع تمكين المواطن من حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو ما انعكس على الخريطة الاجتماعية والطبقية، حيث نمت الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الفقيرة والكادحة، ورأت القوى الإمبريالية الجديدة المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية أن هذا الدور يضرّ بمصالحها الاستعمارية ويهدّد حليفتها الصهيونيّة خاصة أنّ مصر بقيادتها في ذلك الوقت كانت تسعى وبقوة لتحقيق حلم الوحدة العربيّة وبالتالي أخذت على عاتقها ضرورة تحرير التراب العربي الفلسطيني المحتلّ والمغتصب من العدو الصهيوني، وهنا كانت بداية التآمر على مصر ومشروعها الوطني والقومي، وبالفعل كانت نكسة 1967 هي الضربة القاسمة التي قام بها الغرب الاستعماري لتقويض دعائم الدور المصري.

ومات الزعيم الحلم وخلفه أنور السادات الذي قرّر منذ اليوم الأول التسليم للعدو الأميركي، حين أعلن بدون حياء أنّ 99% من أوراق اللعبة في يد الأميركان، لذلك وافق على أن تتحوّل حرب أكتوبر 1973 من حرب تحرير إلى حرب تحريك فقط يعقبها الدخول في مفاوضات مع العدو الصهيونيّ، أسفرت عن اتفاقية سلام مزعومة عرفت بكامب ديفيد، عزلت مصر عن محيطها الإقليمي والدولي، ولم ينسَ السادات وهو يقوّض دعائم المشروع القومي أن يقوّض معها دعائم المشروع التنموي الوطني، حيث أعلن عن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي حوّلت مصر من دولة منتجة لدولة مستهلكة بامتياز، وبدأ الاقتصاد الريعي في الظهور ومعه ظهرت القطط السمان التي أطلق عليها مسمّى رجال الأعمال، ومات السادات برصاص القوى الإرهابية التي تحالف معها بغباء شديد في بداية حكمه وأطلق سراحها من السجون من أجل مواجهة القوى الوطنية المعارضة لتوجّهاته وسياساته التابعة للأميركان والصهاينة، ودخلت مصر بذلك دوامة كبيرة ظلت تدور في فلكها لما يزيد عن ثلاثة عقود كاملة.

حيث جاء مبارك ليعلن منذ اليوم الأول أنه سيستكمل مشوار السادات وخلال سنوات حكمه الطويلة استمرت المؤامرة الخارجية على مصر حيث تمّت تصفية دور مصر على المستويين الإقليمي والدولي وأصبح القرار المصري مرهوناً بالتبعية الكاملة للإرادة الأميركية، فصناعة القرار المصري كانت تتمّ في واشنطن، ولم يكتفِ مبارك بالتسليم على المستوى الخارجي بل قام بالتسليم أيضاً على المستوى الداخلي حيث استمرت مؤامرة تصفية المشروع التنموي الوطني حيث تمّ تخريب الزراعة والصناعة وتمّ بيع القطاع العام المملوك للشعب على غير إرادته، لصالح تنامي المشروعات الاستهلاكية والترفيه، وأصبح الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل أساسي على الريع الآتي من الضرائب وقناة السويس وعائدات المصريين العاملين بالخارج والاتجار بالأراضي والعقارات، وتضخمت مع الاقتصاد الريعيّ ثروات القطط السمان وتحوّلت إلى أفيال وديناصورات ظلوا متمسكين بلقب رجال الأعمال، وقاموا بتنفيذ إرادة الأميركي والصهيوني في تخريب الاقتصاد الوطني، ومع مرور الوقت لم يكتفوا بالثروة المسروقة والمنهوبة من قوت الشعب بل طمعوا في السلطة أيضاً وحدث زواج غير شرعي بين الثروة والسلطة من قبل رجال أعمال مبارك، في ظلّ تدهور وتراجع وتدني المستوى المعيشي للغالبية العظمى من المصريين، فكان قرارهم دخول المعركة معهم في 25 يناير/ كانون الثاني 2011.

واستمرّت المعركة لمَ يزيد عن عشر سنوات، وما زالت مستمرة، فالعدو الأميركي والصهيوني يستخدم أعوانه الإرهابيين بالداخل لشنّ معركة ضارية على مصر العائدة لاسترداد عافيتها على المستويين الإقليمي والدولي بفضل التحركات المكوكية للرئيس عبد الفتاح السيسي، لكن على الرغم من النجاح على المستوى الخارجيّ، فإنّ المعركة على المستوى الداخليّ لم تبدأ بعد، ذلك لأنها ليست كما يتوهّم البعض مع القوى الإرهابية فقط، لكن المعركة الأهمّ التي كان يجب أن يخوضها الرئيس عبد الفتاح السيسي ومعه الشعب المصريّ هي معركة القضاء على الاقتصاد الريعي الضعيف والهشّ، والبدء في بناء مشروع تنمويّ حقيقيّ تكون أركانه هي الزراعة والصناعة الثقيلة والخفيفة والتحويلية. هذا الاقتصاد المنتج هو الضمانة الوحيدة لإجهاض المؤامرة الخارجيّة. وبالطبع لا يمكن فصل معركتنا مع الاقتصاد الريعيّ عن رجال الأعمال أدوات هذا المشروع التدميري للمجتمع المصري، الذين ما زالوا يتلاعبون بقوت الشعب، وأعتقد أنه بمقدورنا الانتصار في هذه المعركة بالقانون فكلّ هؤلاء السارقين والناهبين لثروات الوطن لدى الدولة وأجهزتها السيادية أدلة لإدانتهم. فقط المسألة تحتاج لإرادة سياسية ومواجهة شاملة، وليست مواجهة فردية كما حدث خلال الأيام الماضية مع بعض هؤلاء السارقين والناهبين لقوت الشعب، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى