مرويات قومية

تأسيس الحزب… ملامح أولى علّنا نستذكرها دائماً (1)

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.

إعداد: لبيب ناصيف

تأسيس الحزب… ملامح أولى علّنا نستذكرها دائماً (1)

تاريخ الحزب لا يُكتب في مجلد، ولا يوجز في محاضرة. إنه خزان هائل من المواقف والأحداث والمعارك، التي تحتاج كلّ منها، إذا رغبنا شرحها بشكل تفصيلي وواضح إلى الكثير من الوقت، ومن الشروحات.
لذا نعرض هنا ملخصاً لأهمّ المفاصل في مسيرة الحزب منذ التأسيس حتى مغادرة سعاده الوطن عام 1938، على أن يقوم كلّ رفيق، بمبادرة شخصية، للتعمّق في تاريخ حزبه، آملين أيضاً أن نتمكّن لاحقاً من نشر المزيد من الشروحات التي تضيء على كلّ تلك المفاصل.
أولاً: مرحلة ما قبل التأسيس
ـ سعاده يعبّر بمواقف له في فترة الطفولة ومطلع الشباب عن حسّ وطني مبكر.
في برمانا رفض حمل العلم التركي في مقدمة التلامذة، كما عمد فور انسحاب فرقة الجيش التركي من منطقة برمانا إلى تسلق سارية المدرسة وإنزال العلم التركي وتمزيقه.
وفي بيروت التقى في مكتب عميد كلية طب الأسنان في الجامعة الأميركية، الدكتور دراي، بعدد من الشخصيات السياسية تتناقش في ما بينها حول أية دولة أفضل لتولي حكم بلادنا.
فمن قائل بفرنسا، وآخر يفضل عليها بريطانيا، وثالث أميركا. وإذ التفت أحد الحاضرين إلى الفتى اليافع يسأله: «وأنت يا صغير أية دولة تفضل؟»، أجابهم سعاده الفتى ذلك الجواب الذي أذهلهم: «لا أفضل أحداً، بل أن نحكم أنفسنا، بأنفسنا».
ـ في البرازيل لم ينصرف سعاده إلى اللهو كأترابه من الشباب الذين يغادرون إلى تلك البلاد الجميلة، إنما انكب على المطالعة المكثفة في مختلف العلوم، ساعد والده في تحرير جريدة «الجريدة» أولاً ثم مجلة «المجلة» ودرس على نفسه لغات أخرى (البورتغالية – الألمانية والروسية) فأتقنها، (كان سعاده يحسن أيضاً اللغات التالية: الفرنسية، الإنكليزية، الإيطالية، الإسبانية، واللاتينية).
وإلى انصرافه للمطالعة والدرس على نفسه مستفيداً من مكتبة والده ومما كان يشتريه من كتب بلغات مختلفة، راح سعاده يفكر في وضع بلاده ويبحث في الوسائل التي تؤمّن وحدتها ورقيها، كما تمكنها من ردّ الغزوة اليهودية التي كان سعاده قد بدأ يتنبّه لها، وينبّه، في كتابات له وهو في الـ 21 من عمره.
عمد أولاً إلى تأسيس «جمعية الشبيبة الفدائية السورية»، وإذ وجد أنّ العناصر التي انتسبت إليها كان يهمّها الظهور والعمل الدعائي، انسحب منها ثم أسّس مع زملاء له «حزب الأحرار السوريين» الذي كان من أهدافه سيادة الأمة على نفسها، وتوحيد البلاد السورية.
رغم الإغراءات المحيطة ومحاولة العديدين إقناع سعاده بالعدول عن مغادرة البرازيل، إلا أنه كان قد صمّم على العودة، ففي الوطن لا في المهجر، يصنع مصير الوطن وفيه يصحّ تأسيس الحزب القادر على النهوض بالأمة.
العـودة
ـ عاد سعاده إلى الوطن في تموز 1930، فوجد أنّ الحالة هنا لم تكن أفضل مما عاناه مع المهاجرين في البرازيل، «فجميع أراخنة السياسة والاجتماع كانوا مُجمعين على أنه لا فائدة من فعل شيء وأنه لا تقوم للأمة السورية قائمة في ذلك الوقت».
هذه الفترة كانت تميّزت بسيطرة جيش الانتداب الفرنسي في لبنان والشام واستخباراته منتشرة في كلّ مكان. كما أنّ القانون الصادر عن الفرنسيين (LR 115) كان يحظر أيّ نشاط حزبي أو سياسي.
(عرف بقانون قمع الجرائم الذي كان يعني أنّ كلّ فئة تتجاوز الخمسة أشخاص تجتمع في مكان ما بغير إذن رسمي وتشاء الحكومة أن تظنّ أنه يوجد مقاصد وراء الاجتماع فلم يكن ما يمنع من دخول رجال التحري والأمن العام واستياق المجتمعين إلى دوائر التحقيق).
في هذا الجو قرر سعاده أن يبدأ العمل في دمشق، ذلك أنها كانت تستقطب العمل السياسي، وقد وصفها سعاده «أنها كعبة الحركة الوطنية السورية» (مقالته سورية تجاه بلفور).
إلا أن تجربته مع رجال الكتلة الوطنية، وكان سعاده قد انتقل من التدريس في «الجامعة العلمية» إلى جريدة «اليوم» التي كانت تصدرها الكتلة الوطنية. تجربته هذه أعطته صورة واضحة عن «صبيان السياسة» في بلادنا كما يصفهم سعاده في مقالات له نشرها في جريدة «النهضة» في بيروت، وفي إحداها يقول: «لقد تغنى الكتلويون كثيراً بجهادهم، والحقيقة أنهم لم يكونوا غير مستغلين لجهاد الأمة ومحوّلينه إلى النتائج التي أرادوها لأنفسهم».
بعد أن أمضى سعاده سنة كاملة في دمشق كانت كافية كي يكتشف أنّ الأرض فيها لم تكن صالحة للزرع، قرّر العودة إلى بيروت بعد أن كان أنشأ بعض الصداقات والعلاقات (جميعهم انتموا في ما بعد باستثناء عادل الصلح، وهم: يعقوب جبور، أديب بربر، معروف صعب، محمد روح غندور، محمد روحي خياط، ورياض حمادة.
في لبنان
الاتصالات الأولى التي أقامها سعاده في كلّ من ضهور الشوير، وفي المثلث الثقافي (المؤلف من بلدات برمانا، رومية وبيت مري) ومنها انتمى رفقاء في بدايات سنوات التأسيس، والبعض منهم كان له شأنه في النضال القومي الاجتماعي، تلك الاتصالات ساهمت في تأسيس الحزب، إلا أنّ النواة الأولى للتأسيس أوجدها سعاده في الجامعة الأميركية في بيروت التي كان انتقل إليها مدرساً اللغة الألمانية للراغبين من الطلبة.
النواة الأولى تألفت من خمسة رفقاء: 4 منهم كانوا طلبة في الجامعة الأميركية (جورج عبد المسيح، جميل عبدو صوايا، وديع تلحوق وزهاء الدين آل حمود) أما الخامس: فؤاد حداد فهو إبن جريس حداد صاحب المطعم تجاه الجامعة الأميركية حيث كان يرتاده سعاده. وبعد أن تعرف إلى فؤاد انتقل إلى منزل العائلة في شارع جان دارك إذ كانوا يؤجرون غرفاً فيه للطلبة.
المعروف أن اثنين من الخمسة تبين زيفهما (وديع تلحوق وزهاء الدين حمود)، عنهما يقول سعاده: «تظاهرت بأني اقتنعت بصحة قبولهما في حين أن شكوكاً كثيرة خامرتني قي صددهما، ولكني رأيت أن استعين بهذا العدد غير المتجانس على القيام بالاختبار الأول لتأسيس الحزب» (من خطاب أول آذار 1938).
ولأنه لم يكن قد وضع دستور للحزب فقد رأى سعاده أن يكون الطرد بصورة حل للحزب فدعا الأعضاء الخمسة إلى اجتماع وأبدى لهم رغبته في تأجيل العمل الحزبي «إلى أن أكون قد وجدت استعداداً وتفاهماً تامين بين الذين يرغبون في السير معي. وان عملنا قد انتهى وان كل واحد حر» (خطاب أول آذار 1938).
ما يجدر ذكره أن الصعوبات التي رافقت تأسيس الحزب في بدايات الثلاثينات كانت جديرة بأن تثني سعاده عن الاستمرار، والعودة مجدداً إلى البرازيل، كما رغب إليه جورج عبد المسيح: «خير لك يا أستاذ أن تعود إلى مهجرك، أنت مغشوش بهذا الشعب، فالفساد قد غيّر قلبه ولا يمكن أن تجد خمسة يمكن أن يجرأوا على عمل كهذا في ظل الانتداب».
في منزل الرفيق فؤاد حداد، بيروت أيار 1936
الدكتور أنيس فريحة وكان كاشفه سعاده برغبته في تأسيس حزب يكفل لامته وحدتها ورقيها، يجببه: «اسمك أنطون، وتأمل أن يكون وراءك قاسم وعلي وعبد الساتر؟، بدعسك على رقبتي إن نجحت في مسعاك».
عن ذلك يقول سعاده: «أن الحزب السوري القومي هو أول حزب تجرأ على التأسس في سورية بعد إلغاء الأحزاب وإعلان قانون قمع الجرائم المخيف».
في رسالته الخامسة إلى غسان تويني في 9 تموز 1946 يتحدث سعاده عن ضعف النبتة الحزبية سنة 1933 ويشير «إلى أن رفقاء الزعيم الأول ومعاونيه متفاوتون في المعرفة والإدراك والمؤهلات فبعضهم تفوتهم تفاصيل هامة لا يدركون قيمتها التاريخية وبعضهم يميلون إلى الناحية الشعرية من الأمور، وبعضهم لم يتسن لهم عرفان أمور سابقة لعهد دخولهم وغير ذلك».
مع ذلك فالخمسة الذين تحولوا إلى ثلاثة، أصبحوا 15، فثلاثين في حزيران 1934، فستين ونيف مع آخر العام، حتى إذا عقد اجتماع الأول من حزيران 1935 وفيه تلا سعاده خطابه المنهاجي الأول كان عدد أعضاء الحزب يتجاوز الثلاثماية.
في فترة السنوات الثلاث من العمل السري، ورغم الواقع الذي كانت تفرضه سلطات الانتداب، تمكن الحزب من الانتشار في لبنان والشام وأجزاء من فلسطين، ونظم فروعه في منفذيات، ووضع دستوره فضلاً عن مبادئه، وقام سعاده بزيارات حزبية إلى مناطق طرابلس، الكورة، جزين، برمانا، بيت مري والشوف.
وفي تلك الفترة أيضاً عين سعاده عمداً وشكل منهم مجلس عمد، اختار شكلاً لشعار الحزب من بين أكثر من اقتراح تقدم به رفقاء مهندسون، أصدر أربعة أعداد من مجلة «المجلة» (تلك التي كان أصدرها والده في الأرجنتين، ثم في البرازيل) ودعا الأعضاء إلى اجتماع حزبي عام في دارة نعمة ثابت وفيه تلا عميد الدعاية والنشر (الأمين عبد الله قبرصي) تقريراً عن أعمال العمدات وألقى سعاده الخطاب التاريخي الذي يعتبر من وثائق الحزب الهامة والأساسية. بدوره أنشأ عميد الدعايـة أول لجنة إذاعية مركزية.
تمّ أيضاً اعتماد بطاقة عضوية، وأخرى مالية بحيث يتسلم العضو عند انتمائه وثيقة العضوية (عليها رسمه، توقيعه، وبصمة الإبهام بالإضافة إلى معلومات أساسية عنه) وبطاقته المالية التي تنظم تسديده لاشتراكاته الشهرية.
على صعيد وضع الدستور نبرز النقاط التالية:
القسم الذي كان يؤديه الرفقاء الأوائل لم يكن في نصه أية إشارة إلى القوانين أو الأنظمة ولا إلى صفة القيادة وصلاحياتها.
كل من الأعضاء الأوائل (يقول الأمين جبران أن عددهم 12، إنما في الشروحات التي ترد في الجزء الأول من «من الجعبة» يتبين أن العدد 15) كان يحمل لقب مؤسس وتشكل منهم مجلس سمي «مجلس المؤسسين».
كان الأعضاء الأوائل يتوجهون إلى سعاده تارة بـ «الأستاذ» وطوراً بـ «الرئيس» وأحياناً بـ «الزعيم» إلى أن تمّ الاتفاق على اصطلاح تسمية «القائد العام».
وضع «القائد العام» التشريع الأساسي للحزب مواد متلاحقة بلغ عددها أربعين أو خمسين مادة إن لم يكن أكثر (كما يقول الأمين جبران جريج). وفي الثلث الأول من العام 1934 دعا «القائد العام» مجلس المؤسسين إلى اجتماع يعقد للتداول بمسودة «التشريع الأساسي» التي وضعها.
عقد مجلس المؤسسين جلسات عديدة لمناقشة المواد، واحدة واحدة، وإقرارها. بعد مشادات وخلافات في وجهات النظر، وكان سعاده لا يتدخل في النقاش إلا قليلاً، لإيضاح إبهام أو شرح إحدى النقاط، توصل «مجلس المؤسسين» إلى حسم موضوع الصلاحيات المطلقة للقائد العام، واعتماد تسمية «الزعيم» وتمت إضافة النصوص التي تشير إلى القوانين والأنظمة في القسم الحزبي.
الأمين عبد الله قبرصي لا يتحدث عن ذلك في مذكراته إنما يفيد أنه بعد انتمائه وتعيينه عميداً للدعاية والنشر «كان علينا في بادئ عهدنا بالنشاط أن نضع دستوراً للحزب شاملاً لأن دستورنا كان نواة لا بناء شاملاً، وقد كلفت بوضع مشروع للدستور وبالفعل وضعته، وتبنى سعاده أكثر ما ورد فيه».
ويضيف: «وما إن أطل علينا الدكتور جورج حكيم حتى كلف بوضع النظام المالي وهو جزء هام من دستورنا. ولا يزال نظامنا المالي الحالي هو نفسه الذي وضعه الدكتور حكيم وناقشناه في مجلس العمد وأصدره سعاده بمرسوم تشريعي».
ويضيف أيضاً: «أما المشروع الذي قدمته فظل عرضة للتعديل حتى أبرم في 21/11/1934 ثم صنف في 20 كانون الثاني 1937. وقد عيدنا أول مرة في سجن الرمل عيد دستورنا في 21/11/1935». (من الجعبة الجزء الثاني ص 275/276).
برأينا أن الأمرين تلازماً إلى أن وضع دستور للحزب، خاصة أن الأمين جبران يستند في شرحه عن مجلس المؤسسين إلى إفادات رفقاء عايشوا تلك المرحلة: جورج عبد المسيح، فؤاد حداد، فكتور أسعد، جميل عبده صوايا، رفيق مروش.
تلك كانت البدايات. أما أهم مفاصل تاريخ الحزب حتى سفر سعاده إلى المغتربات فنوردها في السياق التالي:
الاعتقالات الثلاث التي تعرض لها سعاده:
الزعيم اثناء الاعتقال الأول
الاعتقال الأول: إثر انكشاف أمر الحزب في 16/11/1935، وقد شكل بدايـة التحـدي بين الحزب والانتداب الفرنسي. وإذا كان الفرنسيون رغبوا أن يحاكموا سعاده على أمل أن يجهضوا تصميمه على بناء الحزب – النهضة، إلا أن سعاده حوّل محاكمته إلى منبر يطرح فيه أفكار الحزب، وإلى محكمة يدين فيها الارادات الأجنبية التي تريد العبث بمصير الأمة. «إني متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض. فأراني مضطراً للقول أن خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهاك حرمة أرضنا قد تمّا بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان، والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي».
الرفيق فكتور أسعد وكان بين الذين اعتقلوا إثر انكشاف أمر الحزب يقول: «ما أشد ما كان اعتزازنا نحن به في تلك اللحظة وما أعظمه في وقفة العز تلك. كنا نكاد نرقص في قفص الاتهام إعجاباً وتحية واعتزازاً. يقال أن سعاده ترك لحزبه قضية ونظاماً. لقد ترك سعاده للأمة كلها تاريخاً مجيداً حافلاً بمواقف العز».
وعن ذلك يقول الأمين الياس جرجي في إحدى مقالاته: «بزغ فجر النهضة في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1935 بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيسها السري فتلقى الناس عموماً النبأ المفاجئ بمشاعر ومواقف متقاربة ومتناقضة وراحوا جميعاً يتسقطون أخبار التحقيق والمحاكمة أمام القضاء الأجنبي الفرنسي وخصوصاً ما تكشفت عنه شخصية الزعيم العبقري ودفاعه من جرأة وصلابة وشجاعة لم يعهد مثيلها الانتداب طيلة وجوده».
أما على صعيد الحزب فيقول سعاده في رسالته الرابعة إلى غسان تويني بتاريخ 26 أيار 1946: «لم يكن بين أيدي القوميين الاجتماعيين غير المبادئ والدستور الأولى، وخطاب الزعيم في أول حزيران 1935، ونص كتاب خصوصي موجه مني إلى سائل عن رأيي في العالم العربي، دافع الأعضاء بهذه الوسائل وما اكتسبوه من المحادثات مع الزعيم وما نقل عنه، وبديهي أن هذه الوسائل كانت ناقصة ولا تفي بحاجة عقيدة خطيرة كعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي ولكن الدعوة القضائية والمحاكمة في المحكمة المختلطة أنقذتا الموقف وأحدث دفاع الزعيم في المحكمة ذلك التيار من القوة المعنوية الذي رفع منزلة الحزب في أعين الشعب وأعين الفرنسيين».
في فترة اعتقال سعاده شارك الحزب عبر نائب الزعيم صلاح لبكي، نعمة ثابت ومأمون أياس في مؤتمر الساحل الثاني، الذي جرى بتاريخ 10 آذار 1936 في منزل السيد سليم علي سلام في بيروت. من الذين حضروا المحامي فوزي بردويل الذي تأثر بموقف الحزب وانتمى (تولى مسؤولية محافظ البقاع لاحقاً). من المعروف أن مؤتمر الساحل أنه نادى بالوحدة السورية وكان له موقف واضح تجاه الانتداب الفرنسي وباتجاه وحدة الأراضي السورية.
فيما سعاده في السجن، أصدرت الحكومة اللبنانية المؤتمرة بأوامر السلطات الفرنسية قرارها بحل الجمعية المسماة الحزب القومي السوري (المرسوم الجمهوري رقم 218/E تاريخ 17 آذار 1936). رغم ذلك كانت القيادة الحزبية خارج الأسر، ومعها العديد من الرفقاء، تستقبل سعاده عند خروجه من سجن الرمل وتواكبه إلى المنزل الذي استؤجر له مقابل الجامعة الأميركية.
أما قوميو بيروت فقد أشعلوا سماء العاصمة مساءً بإطلاق صواريخ الابتهاج والأسهم النارية.
في المنزل وبعد أن قدم نائب الزعيم صلاح لبكي المسؤولين فرداً فرداً مع تسمية المناطق، وفي أول تصريح له قال سعاده: «علمت وأنا في السجن أن الحكومة اللبنانية حلّت الجمعية المسماة الحزب القومي السوري ، أما أنا فأقول أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع حل الحزب السوري القومي لأن الحزب السوري القومي أكبر من الحكومة اللبنانية ولأن الحزب السوري القومي يمثل عقيدة تجري في العروق مع الدم فلا يحل بقرار».
الاعتقال الثاني لسعاده تمّ في 30/6/1936 وقد حصل بعد 45 يوماً على خروجه من سجنه الأول في 12 أيار 1936 في هذه الفترة الفاصلة بين الاعتقالين جرت الأحداث التالية:
في الخامس عشر من حزيران أصدر سعاده بلاغاً يعالج فيه الوضع السياسي الشامل لسورية كلها، عرف بالبلاغ الأزرق.
قيام الرفقاء بتأديب الصحافي عارف الغريب بعد تناوله الحزب والزعيم بالكلمات البذيئة.
اجتماع سعاده مع رئيس الغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية العليا السيد كيفر Keifer. رافق سعاده الأمين عبد الله قبرصي، في المقابلة التاريخية تمنى كيفر لو ينهج الحزب سبل التبشير وإصدار مجلات فكرية في القدس ودمشق وبيروت وتأليف الكتب، وأن يتخلى عن كونه حزباً شبه عسكري، إلا أن جواب سعاده الصريح الواضح هو أنه يريد لأفكاره التحقيق العملي الفعلي في الشعب ولا يريدها كتباً توضع على أحد الرفوف في المكتبات.
يقول سعاده في رسالته إلى القوميين الاجتماعيين من الأرجنتين: «كانت المقابلة ودية أظهرت فيها كل التساهل الذي تسمح به قضيتنا القومية، وأفهمت السيد كيفر أن مصالح سورية وفرنسا المتبادلة توجب على المفوضين الفرنسيين الاعتراف بحركتنا والتفاهم معنا، ولكن رئيس الغرفة الفرنسية كان يطمع، على ما يظهر، بالحصول على أكثر من هذه النتيجة مني».
في 20/6/1936 أصدر سعاده مرسوم الطوارئ الذي ينظم الاجراءات التي يجب اعتمادها في حال اعتقال الزعيم وهيئة الإدارة العليا. هذا المرسوم عثرت عليه السلطات مع الرفيق فؤاد شاوي. لذا تعدى التحقيق مع سعاده مسألة تأديب الصحافي عارف الغريب إلى توجيه تهمة مباشرة إلى سعاده وهي إعادة تشكيل الحزب السياسي الذي كان صدر مرسوم جمهوري بحله.
في 8 تموز، أي بعد اعتقال سعاده بأيام، جرت تظاهرات حزبية أمام سجن الرمل والعديد من السرايات المحلية في المناطق، كانت قررتها القيادة الحزبية دعماً لموقف سعاده ورفقائه في السجن.
وفي 27 تموز جرى تأديب ثان للصحافي الغريب (تمّ في ضهور الشوير عندما التقى به الرفقاء وعرفوه فأشبعوه ضرباً).
في 6/11/1936 خرج سعاده من السجن (أي بعد نيف وأربعة أشهر).
في 16 منه وجه نداء إلى القوميين الاجتماعيين يقول فيه: «إني أخرج من السجن بكفالة مالية قدرها خمسماية ليرة لبنانية سورية عائداً إلى وسطكم لنتابع معاً عملنا القومي الصحيح وخططنا السياسية بدون أي تغيير أو تبديل فيها».
ثم يضيف: «أن موقفنا السياسي فيما يختص بالسياسة الجارية والأوضاع الحالية لن يكون على غير ما أعلناه في البلاغ الأزرق الصادر بتاريخ 15 حزيران 1936 وعالجنا فيه القضايا السياسية المحلية، ولن يكون على غير ما هو واضح في شرح غاية الحركة السورية القومية وخططها. إن خصوم الحركة القومية لا يعدمون أن يجدوا في كل خطة سياسية فنية من خطط الحركة موقعاً للتأويل. فمنعاً لأي التباس، نصرّح بأن مبادئنا ستظل هي هي، وبأن كل برنامج سياسي فرعي سيكون مؤسساً على هذه المبادئ ومستمداً منها».
من الأحداث التي جرت بعد خروج سعاده من الأسر الثاني نورد ما يلي:
في أواسط شهر تشرين الثاني حصلت الفتنة الطائفية في بيروت، فعالجها سعاده بأن أصدر نداء إلى القوميين الاجتماعيين وطلب إلى منفذية بيروت أن تنظم فرقاً من الرفقاء تتوجه إلى مناطق البسطة والجميزة والأشرفية لمنع الصدامات ولتوزيع نداء سعاده. كذلك عمد إلى نشر مقال في «مجلة الجمهور» بعنوان «دم الغوغاء».
جدير بالذكر أن تشكيلات حزبية كانت رأت النور، بعد بزوغ النهضة وكرد عليها، رغم أن قانون قمع الجرائم
يمنع قيامها. فسياسة فرنسا تقسو وتلاحق الحزب السوري القومي الاجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى
تشجع على إنشاء أحزاب من نوع آخر يخدم مصالحها، وهي التالية:
حزب «الوحدة اللبنانية» برئاسة توفيق عواد إلا أنه سرعان ما انهار وانتهى.
حزب «الجبهة القومية اللبنانية» برئاسة المحامي يوسف السودا، صاحب الدعوة اللبنانية.
حزب اشتراكي النزعة برئاسة الصحافي فؤاد الشمالي (كان يصدر جريدة باسم «المريخ») .
حزب «الكتائب اللبنانية».
«النجادة»، ومن مؤسّسيها وأول رئيس لها قائد الكشاف المسلم، الصحافي والنائب محي الدين النصولي. (تسلمها في ما بعد عدنان الحكيم).
إلى جانب تلك التشكيلات، وبالإضافة إلى الحملات المنظمة التي كانت تستهدف الحزب وتقودها صحف مأجورة، فقد صدر في أواسط الثلاثينات مؤلفان ضدّ الحزب، أحدهما من منطلق شيوعي بعنوان «أصابع الاستعمار والفاشيستية في بلادنا – الحزب القومي السوري» لفايز يارد، والثاني من منطلق كنائسي للخور اسقف لويس خليل (وكان برتبة مرسل بطريركي ماروني) بعنوان «الحزب السوري مؤامرة على الدين والوطن»، وقد أشار سعاده في «المحاضرة الأولى» إلى الخور أسقف المذكور.
في هذه الأثناء كان الغليان يعمّ فلسطين نتيجة السياسة البريطانية المشجعة للهجرة اليهودية، فكان قرار الزعيم المشاركة في التصدي المسلح للاستعمار البريطاني على أرض فلسطين وفي رد الغزوة اليهودية المتصاعدة، ومن جهة ثانية مواجهة الانتداب الفرنسي، وتعرّضه للاعتقال بحيث أنه لم يكن يخرج من السجن حتى يعود إليه ثانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى