أولى

زيارة أردوغان للقاهرة وفقه الأولويات!

‭‬ د. محمد سيد أحمد

جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة قبل أيام لتستحوذ على اهتمام الرأي العام المصري والعربي والإسلامي، بل لا نكون مبالغين لو قلنا الرأي العام العالمي، فتركيا شئنا أم أبينا واحدة من الدول الإقليمية الوازنة في المنطقة مثلها مثل إيران ومصر، وزيارة رئيسها لمصر ولقاؤه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تُعدّ حدثاً هاماً، بعد قطيعة دامت لما يزيد عن عقد من الزمان، أعلنت فيها تركيا ورئيسها عداءها لمصر ورئيسها، بل وصفت ما حدث في مصر في 30 يونيو/ حزيران 2013 أنه انقلاب. ولم تكتفِ بذلك بل احتضنت العناصر المنتمية لجماعة الإخوان الإرهابية، وأنشأت لهم منصات إعلامية لمهاجمة مصر ورئيسها، وعلى الرغم من محاولات إنهاء هذا العداء عبر الدبلوماسية التركية والمصرية خلال العامين الماضيين، وعلى الرغم من لقاء الرئيسين في بعض المناسبات إلا أنّ هذا هو اللقاء الرسمي الأول. وقد أثار هذا اللقاء العديد من ردود الأفعال سواء المؤيدة أو المعارضة، لذلك وجدت من الضروري تقييم الزيارة في إطار فقه الأولويات، والتأكيد على أنّ السياسة لا تعرف ثوابت ولا تحكم بالعواطف.
وبما أنها ليست المرة الأولى التي أتحدّث فيها عن فقه الأولويات عند تعاملنا مع الأخطار المحدقة بأمتنا العربية ولن تكون الأخيرة بالطبع، فآفة العقل الجمعي العربي هي النسيان، لذلك دائماً ما نحتاج إلى إعادة تذكير هذا العقل الجمعي بأولويات المخاطر التي تحيط بأمتنا العربية حتى لا يفقد بوصلته، ويدخل في معارك جانبية ويترك معركته الحقيقية، ويجب أن نعترف بأنّ عدونا الحقيقيّ قد تمكن عبر العقود الخمسة الأخيرة أن يفقدنا بوصلتنا الحقيقية تجاه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، وهو ما زيّف وعي الغالبية العظمى من أبناء الشعب العربي، لدرجة جعلت البعض لا يفرّق بين العدو والمنافس، بل تمكن العدو من أن يوهم بعض الحكام بأنّ معركتهم ليست معه بل مع الجيران.
وقبل الدخول في التفاصيل يجب أولاً التأكيد على بعض الحقائق التاريخية، وأولى هذه الحقائق أنّ تركيا دولة من دول منطقتنا جارة تاريخيّة لها حقوق في جغرافية المنطقة مثل حقوقنا كعرب، وثانية هذه الحقائق تتعلق بإيران وما ينطبق على تركيا ينطبق عليها فهي أيضاً دولة من دول منطقتنا وجارة تاريخية لها حقوق مثل حقوقنا، وثالثة الحقائق تتعلق بوضع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والقابع على غالبية جغرافية فلسطين وبعض جغرافية الأردن وسورية ولبنان، ولا يزال يطمع في المنطقة الجغرافية الواقعة بين النيل والفرات بالكامل. فهذا الكيان ليست له أيّ حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، ولا يجب أن يكون موجوداً بيننا أو بجوارنا من الأساس.
وفي محاولة قراءة وتوصيف المشهد الراهن في ضوء الحقائق التاريخية السابقة يمكننا القول إن هناك ثلاثة مشاريع تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها على منطقتنا في ظل التنافس والصراع الإقليمي، ويأتي المشروع التركي في المقدّمة، وهو يسعى للتمدّد داخل منطقتنا العربية بدوافع مختلفة منها ما هو مشروع مثل الحفاظ على الأمن القومي التركي، ومنها ما هو غير مشروع بمحاولة إعادة دولة الخلافة المزعومة وهو ما يُعدّ احتلالاً صريحاً لمجتمعاتنا العربية. وما تقوم به تركيا من احتلال لبعض الأراضي العراقية والسورية إلى جانب تدخلها في ليبيا خير شاهد وخير دليل، وبالطبع تتعاون تركيا في تنفيذ مشروعها مع بعض القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية السارق والناهب الأكبر لثروات منطقتنا العربية، إلى جانب الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية.
والمشروع الثاني هو المشروع الإيراني، وهذا المشروع يحاول التمدد داخل حدود منطقتنا العربية ليس بهدف احتلالها أو سرقة ونهب ثرواتها، ولكن بدافع الحفاظ على الأمن القومي الإيراني، المهدَّد بفعل تغلغل وهيمنة بعض القوى الاستعمارية الغربية على بعض مجتمعاتنا العربية المتاخمة بحدودها مع إيران.
وثالث هذه المشاريع هو المشروع الصهيوني الذي يحاول التمدّد للسيطرة على أكبر جزء من منطقتنا العربية بهدف سرقة ونهب ثرواتنا من ناحية واغتصاب تاريخنا من ناحية أخرى. وهو بالطبع مدعوم من بعض القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لهذا الكيان الصهيوني، ويحاول على مدار العقود الخمسة الماضية اختراق مجتمعاتنا العربية بكل الطرق والوسائل، وتمكن من توقيع اتفاقيات سلام مزعومة مع بعض الدول العربية بدأت بكامب ديفيد مصر 1978، وأوسلو فلسطين 1993، ووادي عربة الأردن 1994، ثم اتفاقيات تطبيع مؤخراً مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في غضون الأشهر الخمسة الأخيرة من عام 2020.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشهد الراهن فيجب تحديد موقفنا من هذه المشاريع الثلاثة، ويجب أن نحدّد بدقة أولويات المواجهة مع هذه المشاريع، وهنا يجب التأكيد على أنّ المشروعين التركي والإيراني هما مشروعان منافسان وليسا معاديين. فالتركي والإيراني جاران ولهما حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، وتأتي محاولات التمدّد والهيمنة منهما بهدف الدفاع عن أمنهما القومي، أما المشروع الصهيوني فهو مشروع معاد لأمتنا العربية والإسلامية وليس له أيّ حق في جغرافية المنطقة، وبالتالي تأتي محاولات سيطرته وهيمنته على حساب أرضنا وثرواتنا ومقدرات شعوبنا، ولا بدّ من مواجهته عسكرياً واقتلاعه من فوق الأرض العربية المغتصبة، ولعلّ الفرصة سانحة الآن ومع استمرار العدوان الصهيوني على غزة. فزيارة أردوغان للقاهرة يمكن أن ترمّم العلاقات المصرية – التركية، وبعدها يمكن ترميم العلاقات المصرية – الإيرانية، ومع التنسيق الثلاثي يمكن مواجهة العدو الصهيوني بحسم وقوة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى