استرداد العروبة
د. رفعت سيد أحمد
مما لا شك فيه أنّ العروبة كانتماء وهوية لقرابة الـ400 مليون إنسان يعيشون على رقعة أرض تمتدّ على أكثر من 13 مليون كم2 تحديداً 13.333.296 كم2 هي المساحة الإجمالية لـ22 دولة عربية ، إنها هوية تعاني اختطافاً، وارتباكاً شديدين، منذ اندلاع ما سُمّي بـ«ثورات الربيع العربي»، التي ثبت الآن أنها لم تكن كلها ثورات، فبعض ما لمع لم يكن ذهباً بل كان تدميراً في الهوية وتفكيكاً للدول المركزية، أكثر منه إصلاحاً أو تغييراً نحو الأفضل.
إنّ هذا «الاختطاف للعروبة» الذي أتى نتيجة أسباب عدة بعضها داخلي متجذر، والآخر خارجي طارئ أو طامع، ترتبت عليه أثمان باهظة الكلفة، سواء على مستوى «الاستقرار السياسي» الذي أضحت غالب بلدان الوطن العربي تفتقده، أو «التنمية الاقتصادية» التي تراجعت معدّلاتها إلى حدّ كبير، أو أشواق الوحدة العربية بأبعادها السياسية والاقتصادية المختلفة، والتي كادت أن تصبح حلماً بعيد المنال، في أجواء ما بعد تلك الثورات.
صحيح لم تكن تلك «الثورات» السبب الوحيد ولكنها كانت أحد العوامل التي أدّت إلى ذلك الاختطاف للعروبة، كهوية وأمل.
فإذا كان الحال كذلك 2015 فما العمل لكي نستردّ تلك الهوية المختطفة بفعل عوامل معقدة، ومتراكمة لعقود، نحسب أنّ الإجابة المباشرة والموضوعية على هذا السؤال، نقول أنّ «استرداد العروبة» يتطلب استراتيجية شاملة لإعادتها عبر مواجهة صحيحة للتحديات الرئيسية الجديدة التي أدّت إلى فقدانها أو خطفها، ويمكن محورة أبعاد تلك الاستراتيجية المنشودة في الآتي:
أولاً: يأتي أول التحديات ممثلاً في عملية مواجهة الإرهاب الملتحف زيفاً بالدين، والذي تعدّ ظاهرة داعش كتنظيم عابر للحدود، وكأفكار تكفيرية رافضة للحياة وللانتماء العربي أو الوطني بإجمال، نموذجاً لها إنّ الدلائل التي رشَّحت بعد دخول تيارات الإسلام السياسي على الثورات المتحالفة مع المخطط الأميركي الغربي، في صفقات معقدة لسرقة تلك الثورات وتحويلها عن بوصلتها الحقيقية في أغلب البلاد التي ابتليت بهم، تؤكد أنّ ثمة نتائج مدمّرة أتت، أبرزها ذلك الافتعال المأزوم لصراع العروبة مع الإسلام، تلك القضية القديمة التي تتجدّد، ولكن هذه المرة بالدم عبر «داعش» وأخواتها، وكأنّ الانحراف الحادّ عن جوهر الثورات العربية الصحيحة، ليتحوّل أغلبها إلى عمليات إرهاب وقتل وفوضى سياسية وإنسانية شاملة، إنّ هذا التحدّي أثر سلباً على «العروبة» كهوية وانتماء، ومطالب عادلة في الحرية والمساواة، وطغى الإرهاب المتأسلم في سورية والعراق وسيناء مصر وليبيا، وانشغلت تلك البلاد نخباً وشعوباً بمواجهته، وانشغل معها باقي العرب، فتراجعت «العروبة»، وأضحى الطريق إلى استعادتها في تلك البلاد وحولها يمرّ عبر مواجهة حادّة مع ظاهرة «الإرهاب المعولم» تلك، وبدون هذه المواجهة، ستظلّ العروبة، فعلاً ماضياً، وحلماً غابراً لأجيال، عاصرت «الفكر القومي» وشهدت بمرارة لحظات تراجعه تحت سيف الإرهاب.
إنّ أيّ مواجهة جادّة لظاهرة الإرهاب «الداعشي» تلك، تحاول أن تفصل بين البلاد المبتلاة به، وتتعامل بمكيالين في المواجهة، حين تواجهه مثلاً في العراق ولا تواجهه في سورية أو ليبيا أو سيناء، فإنّ ذلك يمثل خللاً كبيراً في استراتيجية المواجهة العربية والعالمية للإرهاب في منطقتنا العربية. إنّ المواجهة ينبغي أن تكون شاملة وبمعيار واحد وليس بعدة معايير، وأن يكون الهدف من تلك المواجهة هو استرداد روح العروبة الذي سلبه هذا الإرهاب ويحاول القضاء عليه.
ثانياً: لا عودة حقيقية للعروبة من رحلة خطفها المتراكم عبر السنين إلا بإعادة وضع فلسطين في قلب أجندة تلك العودة حيث فلسطين القضية والأرض، هي قطب الرحى بالنسبة لقضايا العروبة على اختلافها وامتداداتها منذ الأربعينات من القرن الماضي، وحتى اليوم.
فالقضية المركزية للأمة العربية كانت ولا تزال وفقاً لفهمنا وثقافتنا العروبية، ووفقاً للواقع هي فلسطين، إنّ التاريخ ينبئنا بأنّ انكسارات المشروع القومي ومسيرة العمل العروبي تعود في أحد أبرز أسبابها إلى التآمر الغربي الصهيوني على الأمة بسبب فلسطين، وما الحروب المتتالية من العام 1948 مع الكيان الصهيوني إلا مؤشر حيّ على ذلك، لقد توقفت عمليات التنمية والحريات السياسية والثقافية بسبب حالة الحرب ومزاجها، الذي ظلّ سائداً في المنطقة منذ نهاية الأربعينات وحتى يومنا هذا، وحتى عندما بادرت بعض الدول مصر السادات مثالاً في عقد اتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني، كان المردود السياسي والاقتصادي على قضايا الأمة وفي مقدّمتها قضية العروبة سلبياً، حيث تشتّتت الإرادات وخلقت الفتن العربية العربية على خلفية هذا السلام الوهمي هكذا أكدت مسيرة العدوان الصهيوني، بعد تلك الاتفاقات، على لبنان وفلسطين وسورية وغيرهم .
إنّ استعادة العروبة كهوية… إذن لا بد أن تمرّ عبر استعادة فلسطين كقضية تمثل للعرب والمسلمين قضية حق، وعدل، وردّ لعدوان تاريخي دام قربة السبعين عاماً.
ثالثاً: استرداد العروبة أيضاً لن يتحقق دونما العمل العربي المشترك، سواء أسميناه بحلم الوحدة العربية الاقتصادية والثقافية والسياسية أو بأيّ مسمّى آخر، وذلك لأنّ حجم المعاناة التي يعيشها الإنسان العربي في غالب الأقطار العربية تفرض ضرورة تلك الوحدة وحتمية السعي إليها في كافة المجالات، وإلا أصبح الحديث عن العروبة مجرّد وهم، وليس حتى «حلم» ولقد كُتبت مئات الأبحاث حول أهمية تلك الوحدة على الصعد المختلفة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية والإعلامية إلخ… ورغم وضوح حقيقة الحاجة العربية المشتركة لها، إلا أنها لم تتحقق بل أُستبدلت بمعارك وفتن وصراعات عربية عربية أشدّ فتكاً وأكثر كلفة من الصراع العربي ـ الصهيوني.
إنّ الأرقام التي تناشد من بيدهم قرار الوحدة والعمل العربي المشترك، صارخة وواضحة، فهذه الثروة النفطية العربية التي يذهب خيرها إلى بنوك تجارة السلاح في الغرب وإلى الأنماط الاستهلاكية للتبعية بأنواعها المختلفة، هذه الثروة التي تكاد الآن تتبدّد، تحتاج إلى إعادة توجيه إلى البلاد العربية الأشدّ فقراً وما أكثرها، وإذا ما علمنا أنّ حجم المستثمَر من البنية العربية من ثروات العرب لا يتجاوز 10 مليار دولار سنوياً قياساً بقرابة الـ800 مليار دولار الموضوعة في بنوك الغرب لاستثمارها هناك، فإنّ الأمر يحتاج إلى تحرك سريع لعلاج الخلل، وإذا علمنا أنّ 24 فقط من الأرض الزراعية العربية هي المزروعة بالمياه المروية والباقي يعاني من الجفاف والإهمال لعدم وجود أموال تدعم التنمية الزراعية وتحمي الأرض التي تموت، وإذا أضفنا إليه أنّ حوالى 83 مليون عربي لا يحصلون على مياه شرب نظيفة وفقاً لتقرير المجلس العربي للمياه، فإنّ هذا أيضاً يحتاج إلى قرار سياسي واع بالمخاطر، وإذا علمنا أنّ نسبة الأمية في الوطن العربي قد وصلت إلى 30 ، فإنّ هذا مؤشر سلبيّ على حال الأمة التي تريد أن تنهض وتساير العصر، وتواجه الخطر الإرهابي، والخطر الإسرائيلي ومؤامرات اللاعبين الإقليميين والدوليين، ونفس الأمر يُقال عن أزمات التعليم والحريات والثقافة والسياحة وغيرها من المجالات التي لن تنهض إلا بالعمل العربي المشترك والجادّ، فلا عروبة إذن من غير هذا العمل!
رابعاً: ولكي نستردّ العروبة المختطفة أو المهدّدة بالموت، لا بدّ من أن تعيد النخبة الحاكمة والفاعلة ثقافياً وسياسياً نقد أخطائها التاريخية، وعدم العيش في عالم افتراضي من صناعتها، وأن تلتحم أكثر وبقوة مع الواقع المُعاش، وأن تنتقح على العالم بفضاءاته الأخرى التي تتجاوز الغرب ، وتذهب إلى أميركا اللاتينية بثوراتها الوطنية وروحها الاستقلالية الجديدة القريبة إلى حدّ الحميمية مع قضايا العروبة وفلسطين، وإلى الصين وروسيا والفضاء الأفريقي على اتساعه وثرائه وعمقه الاستراتيجي للوطن العربي.
إنّ العروبة العائدة بإذن الله لا بدّ وأن تعي نخبتها تلك الفضاءات، وأن تعمل عليها ومن خلالها وبذلك يتحقق المردود الحقيقي للاستقلال الوطني والقومي الذي هو جوهر العروبة الحقة.
إنّ «العروبة» ختاماً ليست خياراً، لنا فيه حق الرفض أو القبول، ولكنها في ظني ومن واقع قراءة متعمّقة للتاريخ العربي المعاصر قدر، والقدر لا فكاك منه.
إنّ العروبة كقدر لهذه الأمة الممتدّة عبر الجغرافيا والتاريخ يتطلب لتنهض مجدّداً، الإيمان الحقيقي بها، واليقين بأنّ الاعتصام بها في عواصف هذا الربيع العربي، هو منجاة لأجيال قادمة قادرة إذا ما وفرنا لها البيئة الصحيحة للنهوض والثورة، أن تنهض مجدّداً، وأن تحقق ما لم تحققه الأجيال الراهنة، من عزة وكرامة واستقلال وتلك هي قيم العروبة الحقة. والله أعلم.
E mail : yafafr hotmail. com