غزّة بعد «المفاوضات» تؤكّد صحّة خيار المقاومة
جورج كعدي
«وداعاً للمفاوضات» هو عنوان الفصل الأخير بمثابة خاتمة أو خلاصة في كتاب أحمد قريع أبو علاء، رئيس الوفد الفلسطينيّ إلى مفاوضات أوسلو وما تبعها من مفاوضات ذلّ وعبث ولاجدوى حتى عام 2009 الصادر حديثاً في منشورات «مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة» تحت عنوان «الرواية الفلسطينيّة الكاملة للمفاوضات من أوسلو إلى أنابوليس» الجزء الرابع ـ مفاوضات أنابوليس 2007 ـ 2008 . عنوان معبّر يلاقي عنوان الفصل الرابع من الكتاب نفسه «الحرث في مياه البحر»، للدلالة القاطعة على ذاك الوجه العبثيّ، غير المجدي على الإطلاق، في «التفاوض» مع الصهاينة المراوغين المخادعين، محترفي النفاق والمناورة وإضاعة الوقت. وثمة عنوانان آخران في كتاب قريع يحملان المعنى ذاته: «حركة بلا بركة» و«الاحتضار البطيء في النزع الأخير».
حتى لو لم نقاسم أحمد قريع معظم رأيه في مبدأ «التفاوض» و«السلام الممكن» و«الاتفاقيّات» مع «إسرائيل» على شاكلة اتفاقية أوسلو الهمايونيّة التعيسة، إلاّ أنّنا نستطيع استقاء الكثير من العِبَر الجوهريّة من كتابه المهمّ كوثيقة تاريخيّة مفصّلة بالمحطّات والوقائع يتضمّن صفحات حول وقائع المناقشات أو السجالات مع المفاوضين «الإسرائيليّين»، على طريقة قالوا وقلنا المتعلّقة بالصراع التاريخيّ وبأوهام التفاوض وإمكان التوصّل إلى حلّ نهائيّ مع محتلّ مجرم غاصب، مختلّ الشخصيّة، يتمادى في احتلاله وقمعه وإجرامه واستيطانه، يريد لنفسه كلّ شيء ولا يدع لأصحاب الأرض والحقّ والتاريخ حتى الفتات! وبالتالي، يستفاد من كتاب قريع في ما لم يتحقّق، بالطبع، لا في ما تحقّق، ولا عجب أن يتملّك المفاوض الفلسطينيّ شعور بالخيبة والعبث واللاجدوى مع عدوّ «عبثيّ» كهذا، وذاك ما تنضح به مقاطع كثيرة في الكتاب.
يقول «أبو علاء» مثلاً ص 320 ـ 321 : « … كان من الطبيعيّ أن تلقى المفاوضات مع «إسرائيل» كلّ ما لقيه السلام من خلافات داخليّة متباينة ورؤى متعارضة، وهذا ما جعلنا، ونحن نمضي في هذه العملية المريرة، كمن يحارب على جبهتين معاً: الأولى مع «إسرائيل» الماكرة والمراوغة والعنيدة، والثانية مع الداخل الفلسطينيّ، بكلّ ما كان يمور فيه من تنوّع سياسيّ، وما يحتشد على أرضيّته من أجندات خاصة، وما يسوده من توزّع مصالح جزئيّة، وأهداف ليست جميعها أهدافاً فلسطينيّة خالصة، الأمر الذي كان يزيد في جسامة مهمّة المفاوضين … وكثيراً ما أدّى احتدام السجال الداخليّ الفلسطينيّ مع «إسرائيل»، إلى شعور شخصيّ بعبثيّة ذلك الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه، تعتصرنا المرارات، وتضغط على أعصابنا المراوحات في المكان ذاته، الأمر الذي دفعني في بعض الحالات، وهي نادرة في الحقيقة، إلى التفكير في طلب إعفائي من هذه المهمّة التي كثيراً ما بدت لي مستحيلة … والحقّ أن حالة الانسداد التي بدأت مع بداية عهد حكومة نتنياهو الأولى قد تفاقمت أكثر فأكثر عندما حدثت انتخابات «إسرائيلية» مبكرة أوصلت رئيس هيئة الأركان السابق إيهود باراك، الذي كان يصف نفسه بخليفة رابين، إلى سدّة الحكم، إذ مارس كلّ فنون المراوغة والتحايل لإعادة فتح الملفّات التفاوضيّة من جديد، وكأنّ عمليّة السلام قد بدأت لتوّها … وبعد أن تولّى أريئيل شارون دفّة الحكم خلفاً لباراك، تغيّرت البيئة الداخلية لعملية السلام المتعثّرة، كي لا نقول إنّها انقلبت رأساً على عقب، ناهيك بتغيّر البيئة الإقليمية، وفوق ذلك التبدّل العنيف الذي شهدته البيئة الدوليّة في إثر تلك العمليّة الإرهابية الكبيرة التي وقعت في 11 أيلول/سبتمبر 2001، وشروع الولايات المتحدة في حرب كونيّة ضدّ الإرهاب … ».
الخلاصة الجوهريّة لكلام رئيس الفريق الفلسطينيّ المفاوض يمكن اختصارها بالنقاط الآتية:
1 – «الإسرائيليّ» غير جدّي البتّة في قبول مبدأ التفاوض الذي يوصل إلى حلّ، ولا في خوض تفاصيله، إلاّ من باب البروباغندا لصورته في العالم بكونه طرفاً راغباً في السلام مع الفلسطينيّين وبالتالي مع دول المحيط، ولا هدف له واقعاً سوى تقديم هذه الصورة، مؤمناً في قرارته بأنّ لا سلام في هذه المرحلة ولا في المراحل المقبلة قبل استكمال مخطّطه الاستيطانيّ التوسّعي وقضم المزيد من الأراضي بلوغاً إلى «إسرائيل الكبرى» و«الدولة اليهوديّة» التي يصرّ عليها أيّما إصرار.
2 – المراوغة والمكر والتراجع والدوران في دائرة مفرغة أمر طبيعيّ للمفاوض «الإسرائيليّ» الذي يدخل ميدان التفاوض للإلهاء وإضاعة الوقت وكسب الدعاية الخارجيّة لدى الرأي العام الأميركيّ والأوروبيّ والعالميّ، في حين يأخذ المفاوض الفلسطينيّ نقاط التفاوض بجدّية، لعلّ وعسى، غير متيقّن في البدء من أن «الإسرائيليّ» يفاوض للتفاوض، على طريقة الفنّ للفنّ، وليس لغاية محدّدة أو لبلوغ نقطة الحلّ. لذا يُصدم المفاوض الفلسطينيّ، مثلما حصل لـ «أبي علاء»، بما يدعوه الحرث في الماء والعبث واللاجدوى، لاختلاف النيّات والأهداف بين الفريقين.
3 – البرهان عن لاجدّية المفاوض «الإسرائيليّ» ونفاقه وخداعه وعبثيّة التفاوض معه أنّه كلّما أتى إلى رئاسة الحكومة الصهيونيّة مجرم ليخلف مجرماً، ينقض الخلف ما «وصل» إليه السلف الذي لم يصل إلى شيء في الواقع لإعادة المفاوضات إلى نقطة الصفر، ما يؤكّد جانب اللعب واللهو واللاجدّية، وخاصة على تكتيك إضاعة الوقت واللعب على مرور الزمن، لإطالة أمد المفاوضات العبثيّة إلى ما لا نهاية في انتظار تحقّق الحلم الصهيونيّ الأساسيّ، دولة يهوديّة بين الأزرقين، النيل والفرات، والقضاء نهائيّاً على «حلم» الدولة الفلسطينيّة أو مشروع «الدولتين» الخنفشاريّ المنافق المصنوع لدى أمّ الشرور، الولايات المتحدة الأميركيّة.
بالعودة إلى غزّة اليوم وبالأمس وفي كل حين، بات جليّاً أنّ الفلسطينيّ تلقّن الدرس من خرافة التفاوض مع «الإسرائيليّ»، فاعتمد بدءاً من غزّة اليوم، وامتداداً إلى الضفّة في الغد القريب، المقاومة نهجاً وحيداً للتعامل مع وحش مختلّ مسعور لا يفهم إلاّ بلغة القوّة والمقاومة والتحرير، ولا يوقف إجرامه المتمادي إلاّ هذا النهج المقاوم، وللمرّة الأولى في تاريخ الصراع المرّ الطويل، يتصلّب المفاوض الفلسطينيّ ويثبت على مواقفه ومطالبه، وفي ذلك عين الحكمة والمنطق والصواب. والنصر النهائيّ لا بدّ آتٍ.