أكذوبةُ السَلام
عدنان كنفاني
الإنسان السويّ العاقل، أيّا كان عمله وموقعه، يدرك أنّ عليه أن يقف في وقت ما، ويراجع حساباته، أين أصاب وأين أخطأ، أفلا يجدر بنا نحن الفلسطينيين، أن نقف، بعد مسيرة أكثر من ستين سنة ونراجع حساباتنا، أن نطرح على أنفسنا أسئلة شجاعة، وأن نحاول الإجابة عنها بشجاعة أيضاً؟
إنّ أهمّ المراحل التي مرّت بها قضيتنا تتمثّل في مرحلتين… ما قبل أوسلو وما بعده.
فأيّ الحالين كان أفضل بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، في حياته اليومية وحركته النضالية في الداخل وهو تحت سطوة الاحتلال المباشر، أو في الشتات؟
وما هي الظروف التي هيّأت ذلك التغيير الغريب المفاجئ بالسماح «سلمياً» بدخول سلطة فلسطينية إلى الداخل الفلسطيني؟
هل كان تصاعد العمل المقاوم وتناميه في الداخل الانتفاضات الشعبية وفي الخارج العمليات الفدائية هو ما فرض على العدو القبول بدخول عناصر محدّدة ومنتقاة لتشكيل سلطة؟
أم أنّ ذلك كان لاحتواء المقاومة ومحاصرتها وتقزيمها، والإبقاء على الاحتلال فعلياً من خلال الإمساك والإشراف حتى على الرغيف الفلسطيني؟
لو راجعنا أكداس الملفات المحتوية على مشاريع اتفاقيات وطروحات لتحقيق ما أتفق على تسميته بـ«السلام» ثم لم تجد طريقها إلى التنفيذ، لا بدّ أن نسأل، لماذا نسف الشعب الفلسطيني كلّ تلك المشاريع الالتفافية على ثوابته لو كانت تحقق له الاستقرار؟
ولو سلّمنا بأنّ الساعين إلى سلوك نهج المفاوضات والقبول بدولة على أرض فلسطين ما بعد 1967 «بحسن نيّة»، هل استطاعوا أن يصلوا عبر سنوات وسنوات من المفاوضات والوعود المعسولة إلى الحدّ الأدنى من ذلك، بينما يبتلع التمدّد السرطاني في كلّ يوم، وفي ظلّ المفاوضات، الأرض الفلسطينية في الضفة والقدس، تحت سقف السلام ؟
وهل أثمرت اللقاءات المتواصلة بين قيادة السلطة، والعدو شيئاً مفيداً لصالح الشعب الفلسطيني؟
السؤال الذي يبدو غريباً وسط ذلك كله، لماذا أنشأت السلطة هذا الكمّ من المكاتب الاستخباراتية والقوى الأمنية الوقائية المتعدّدة، والتنسيق الأمني مع العدو مباشرةً؟
وهل استطاعت في أيّ وقت، منذ إمساكها بما يُسمّى السلطة، أن توقف حمام الموت اليومي والاختراقات «الإسرائيلية» شبه اليومية في كافة المناطق الواقعة «نظرياً» تحت سلطة السلطة، بما في ذلك تجريف ومصادرة الأراضي والعبث بأساسات المسجد الأقصى وإقامة الجدار العازل والحصارات والاعتقالات واستباحة أبسط حقوق حياة الشعب الفلسطيني.
وهل تملك السلطة حرية بناء اقتصاد فلسطيني؟ وحرية قرارها السياسي والاجتماعي والأخلاقي؟
هل نستطيع أن نجد من يدلّنا إلى أيّ منجز تمّ تحقيقه لصالح الحياة اليومية للشعب الفلسطيني حققته السلطة خلال تواجدها على أرض غزة والضفة، وفي كلّ مراحل «المفاوضات»؟
وهل يستطيع أيّ فرد من أفراد الشعب الفلسطيني، بما فيهم رجالات السلطة، التحرك والسفر حتى بين مدن وقرى الضفة من دون إذن من العدو؟
ناهيك عن الفساد المستشري بين رموز السلطة.
ترى هل يمكن لأي قيادة شعب من شعوب الأرض بَذَلَ من أجل حريته واستقلاله أن يتجاهل عطاءات أفراده؟ فهل استطاعت السلطة أن تستثمر، لصالح القضية، تلك المواقف النضالية المعمّدة بدماء الشهداء، واستعداد الشعب الفلسطيني للعطاء والتضحية بلا حدود؟
من الحكمة أن نقف في تاريخنا الحديث، ولا أقول تاريخنا القديم كي لا يخرج من يتهمني بالتباكي على الأطلال، أن نقف عند مفاصل بعينها حققنا فيها انتصارات على العدو، ولو تقصّينا، لوجدنا أنّ ذلك تحقق فعلاً وبداية في معركة الكرامة، التي رفعت بؤس الانكسار الفاجع إبان حرب حزيران 1967، وهي على في المنظور العسكري معركة مقاومة شعبية وليست حرباً كلاسيكية، كما أنّ صمود المقاومة وتصدّيها لمخططات العدو في فلسطين مكّنها من توجيه ضربات موجعة إلى الكيان الغاصب أجبرته على تغيير وتبديل تكتيكاته، وليس توجهاته، كما استطاعت المقاومة في لبنان أن تحقق انتصاراً بارزاً بهزيمة الصهاينة في العام 2000 وفي حرب تموز 2006، وانتصار المقاومة في غزّة في أواخر العام 2008، وأخيراً في هذا العام 2014، بصمودها، وإفشال مخططات العدو باقتلاعها، أو في كسر شوكة المقاومة.
غزة محاصرة حتى النخاع، ومعاناة لا توصف، وموت يومي، والمفجع أنّ أبناء العمومة والخؤولة الأشقاء يساهمون في تصعيد تلك المعاناة، فهل بقي مَن يصدق أنّ العدو يمكن، ومن خلال المفاوضات الماراثونية، أن يفكر للحظة في توفير السلام المنشود للفلسطينيين؟
نخلص إلى مسألتين… إنّ تواجد السلطة بشكلها الحالي ورموزها المصرّين على السلوك ذاته والنتائج واضحة وبيّنة لا يمكن أن نضعه تحت مسمّى «حسن النيّة»!
ونؤكد أنّ انتصارات الشعوب على مغتصبي حقوقها وإنسانيتها لا يمكن أن يأتي باستجداء العدو المحتلّ أو بالتفاوض معه، ولكن يُتنزع انتزاعاً متى ملكنا الإرادة الحقيقية، وهيّأنا الأسباب للفعل المقاوم.
إنّ لُحمة الشعب الفلسطيني وراء هدف واحد، وسلاح واحد، وقرار واحد، هي القادرة، ومن خلال المقاومة بكلّ أشكالها، على تحقيق النصر، ومهما طال الزمن…