مهدي حوماني… رسام الفطرة يقتحم سحر اللون بثقة
جهاد أيوب
افتتح التشكيلي مهدي حوماني مؤخراً، معرضه الدائم في صالته الخاصة في منطقة تول ـ جنوب لبنان، ولن يستطيع الزائر البسيط أو المتابع بشغف التشكيلَ ولوحاته، إلا أن يصرف الكثير من وقته متأملاً هذه التجربة الحسّاسة والبهية.
مهدي حوماني، تشكيليّ شاب رافق الريشة واللون منذ الطفولة، عشق طبيعة قريته حاروف، وتتلمذ شعراً وأدباً في كتب آل حوماني المشهود لهم عربياً في دنيا الفكر والأدب. لم يتعلم الرسم، وهو ينتمي إلى فنّاني الفطرة، لكن الأيام ثقفت التجربة، وجعلتها مخملية الملمس وساحرة اللون. استفاد من الطبيعة الخلابة، تصالح معها حتى العمق، سافر مع فصولها ليسرق ألوانها، واستمع إلى حكايات الأجداد حتى سافر مع الخيال. لا يخاف الأصباغ، ويتعامل معها كأحبار والريشة هي القلم. لديه مقدرة متناغمة في ارتجال اللون والمشهد والإضافة إلى الصورة التي يلتقطها أو تطلب منه. يتناغم بجرأة مع اللوحة الكبيرة كما الحال مع الصغيرة، والكلّ يدركون ويعلمون أن الفنان التشكيلي بمختلف عصوره يخاف الجداريات وما شابه، وربما يهابها وبحذر. هنا مع مهدي تختلف الحكاية، ويرويها على كلّ القماش والمساحات. همّه الرسم واللون ولا يكترث للحبكة والضجيج الخارجي أو المصحوب مع العمل. تجده منغمساً بهوايته والعالم من حوله يشتعل. قليل الكلام وثرثار بالألوان، وألوانه تنسجم مع مواضيعه، ومواضيعه تحاك من الطبيعة، وألوانه تطرّز المشهد الطبيعي بسحر غاية بالانسجام والروعة.
تسحرك ضربات ريشته الرشيقة، وتسحرك أكثر خلطة ألوانه حتى الدهشة، قد لا تنسجم مع الشخوص التي يخطّها لكونه لم يتعرّف إلى التشريح ولا يحبّ التفاصيل. وبدوري، أنصحه بالابتعاد عن رسم الشخوص مدرسياً وكما تدرّس، والتفرّغ للعفوية والبساطة. الفنان الفطري لا يحتاج إلى الرسم الإنشائي ودقة إبراز تفاصيل الشخوص بقدر التعبير الصادق، ومهدي حوماني في تعبير لوحاته، ألوانه صراخ لجماليات الروح المنتعشة من أناقة الصنع والتنفيذ واللون.
لا ينظر في نصّه بقدر ما يشبعنا نصّه بالحديث، ولا يتصنّع بألوانه بقدر ما ألوانه تغرقنا بحوار الجمال والتواصل بين سعادة النظر وفرح التلقّي. واللافت في تجربته سرعة تنفيذه لوحته التي قرأها بعينه، وطبعها وأدار معها حواراته في ذهنه وفكره حتى انفجرت مرسومة ومنقوشة على الورق والقماش بسرعة يحسد عليها.
يعشق أصباغ الأكراليك بجنون، يتعامل معها بحنوّ رغم حدّة هذه الأصباغ، يطوّعها بسرعة ويتناغم معها بهدوء ويبتسم لها كما لو كان يحاورها ويستمع إلى ما تقوله. قد يتركك تتحدّث منفرداً وهو منشغل مع ألوانه ونصّه. لن تغيب عنه فهو في محرابه وأنت زائره، ولا تنزعج لعدم ردّه فاللون ردّ عنه. وكلّما سمح لك بالاقتراب من لوحته ومكان عمله، كلما لاحت لك معالم المشهد وتتعلّق به من دون تردّد أو تصنّع، وربما العفوية والحرفنة والتواضع مفاتيحه في جعل المشاهد والزائر معجبَيْن بنصّه وطريقته مع الناس والزوّار.
زوّار معرضه المفتوح من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية، والكلّ شركاء في النظر والصمت. وما يلفتك أن المجتمع القرويّ بطبعه يحبّ النصّ الواضح والإنشائي الناقل الطبيعة ومفرداتها الصامتة، وقد ينزعج إذا فرضت ألوانك المغايرة، وحدث معنا الكثير من الانتقادات النافرة، بينما مع مهدي حوماني يسمح له زوّاره من الريف أن يجرؤ ويفرض طريقته في خطّ أشكاله ومشهده ويغوص بألوانه من دون أن ترفض. لذلك، لا عجب إن اتهمناه بساحر الألوان، لقب يستحقه لبساطة فعلته وعمق بصمته.
مهدي حوماني لا يرسم ما لا يقتنع به، ولا يخطّ ما لم يطبخه في عالمه، ولا يسجن ريشته في دائرة ضيقة من المشهد، بل يتجوّل ويعاود التجوّل حتى يجد ضالته. وما أن يجدها حتى يصرّ أن يسبح في النهر والبحر معاً. ولا يضرّه إن تجوّل في هضاب الطبيعة، المهم أن يجعل اللون صارخاً وناعماً وحالماً. يغرّد معه ولا يدعه وحيداً في عالم التغريد، يحاوره ولا يتركه للثرثرة والصدفة بل هو صديقه وصديقه هو، قد يطلب منه أن يستنسخ مشهداً مألوفاً، مهنياً يقوم بواجب التنفيذ فالحياة تتطلّب الرزق لكنّه يرفض الإمضاء، ويعترف أنه تعلّم من لوحة غيره وأخذ من جمال روحها. تسكنه زوايا اللوحة حتى يعاود القراءة فيرسم ما شعر أنه يفيد لوحته وكان ناقصاً هناك، وفي تنفيذ كهذا لا يعتبر سارقاً بل مكمّلاً من دون أن يمس طبيعة عمل غيره.
إن هذه الحساسية في قراءة المشهد واللوحة عند مهدي حوماني تجعله أكثر فهماً لطبيعة موهبته وطريقة عمله. ونصيحتنا له أن يُكثر من صنع فكرته هو، بعد هذا الجهد والتجربة والشطارة والرشاقة. فهو متمكّن في التصوير والطبع والتجديد، ويعرف مكامن الجمال في النصّ، لذلك كلّما تخصّص في نصّه كلّما تألق أكثر.
يحبّ مهدي حوماني المنافسة، وهو اليوم حطّم الرقم القياسي في لبنان، وربما في العالم العربي من خلال رسمه أصغر لوحة ملوّنة لمنظر طبيعي 2 سم 2.5 سم ، والرقم السابق كان 5 3 سم . ومهدي حوماني أكثر سعادة لكونه نفّذها ونجح، لكنّه يتألم لتجاهل الإعلام هذه المنافسة.