يوم انتصر الإعلام للقضية… وسطع نجم الحزب
اعتدال صادق شومان
بينما يُطفئ الحزب السوري القومي الاجتماعي شمعته الخامسة والثمانين لينير درب أمة بأسرها، نعود بالتاريخ إلى الفترة التي تعرّض لها الحزب للوشاية إلى سلطات الانتداب الفرنسي، وهو لا يزال في طور الإعداد والتكوين السرّي في العام 1932، فقد أدّى انكشاف أمر الحزب السوري القومي الاجتماعي في السادس عشر من تشرين الثاني 1935 إلى نتائج خدمت قضيته، خلافاً لما كان يرجوه الانتداب الفرنسي، والقوى الموالية له من إرهاب الحزب ودفعه الى الانكفاء، فها هو حزبنا يحتفل بذكرى تأسيسه الخامسة والثمانين تأكيداً على تجذره بهذه الأرض وبأبناء شعبها.
وقد أدّت في حينه الإذاعات والصحافتان اللبنانية والفلسطينية ومعهما الصحافة العربية أدواراً مميزة من خلال أصحاب الأقلام والشخصيات الإعلامية الوطنية البارزة، والتي أتيح لها لعب دور إيجابي في قضية الحزب ومؤسسه الشاب أنطون سعاده، فأبرزت أخباره وأثنت على عقيدته وحسن تنظيمه حتى أنّهم نظموا فيه الأشعار، بينما اختارت بعض الصحف لأقلامها أن تدمغ بصفات صغيرة فأسقطت نفسها من المكانة المهنية بالمعنى الوطني والأخلاقي للمهنة، فالصحافة في المفهوم القومي الاجتماعي يجب أن تجافي الباطل وتبغي الحق لوجه الحق.
وبالعودة الى جوهر الموضوع فقد أصبحت أخبار الحزب بعد انكشاف أمره الشغل الشاغل للناس، لما للصحافة من موقع ظاهر في الحياة اللبنانية السياسية، ودور أساسي لا يمكن تجاوزه وإن اختلفت الرؤية والتفسيرات والتأويلات تجاه مختلف القضايا بين صحيفة وأخرى.
«إنني أسستُ حزباً قومياً لا ليبقى في السرّ»
بهذه العبارة ردّ سعاده على المستنطق الفرنسي معلناً على رؤوس الأشهاد انبثاق الحزب السوري القومي الاجتماعي فطارت كلماته الى الصحف، فكان لصداه «انتشار النار في الهشيم» في الأوساط الحزبية من ناحية والأوساط الشعبية من ناحية أخرى، سواء أكانت متضامنة مع الحزب أو يدفعها الفضول حتى بات الحزب كله تحت مجهر الصحافة بما يشبه اليوم ما يُسمّى «بروباغندا المشاهير»، واشرأبت أقلام الصحافة تترصد تحركات الحزب وزعيمه ومجلس قيادته داخل السجن، في أي غرفة أودع سعاده السجن؟ ما رقمها؟ ومن يشاركه قاووشه؟ ماذا يأكل؟ وماذا يشرب؟ من يُحضر له الطعام؟ من هم هؤلاء الشباب، أعضاء القيادة؟ مَن هي عائلاتهم ؟ ماذا يفعلون في الحياة، ما هذه المفردات التي يتخاطبون بها؟ وعن أي عقيدة يتحدّثون، ما هو سرّهم ؟ ومتى صار لهم دستورهم الخاص يحتفلون بذكرى إبرامه الأولى، وهم بالسجن؟ ما لهذه الأسماء المتنافرة في طوائفها ومناطقها، ذكي نقاش، فؤاد مفرج، مأمون اياس، عبدالله قبرصي، عجاج المهتار، صلاح لبكي، جورج حكيم، نعمة ثابت، أن تجمعهم قضية واحدة، ومَن هو زعيمهم؟ الذي لا عهد لنا به بين الزعماء التقلديين، ومن أين أتوا بكل هذا السحر الغامض الذي جعل فطاحلة المحامين يتطوّعون للدفاع عنهم من أمثال حميد فرنجية، حبيب أبو شهلا، عبدالله اليافي، شارل عمون، شفيق ناصيف، موريس الجميل، يوسف جرمانوس، وفيكتور حكيم.
وبات معيار الصحافي القدير ذاك الذي يحقق سبقاً صحافياً وينجح في الوصول الى أحد أفراد الحزب علّه يحصل منه على ما يشبع نهمه المهني فضول الناس، فالقوميون خارج السجن أصبحوا مكشوفين يؤازرون زعيمهم وحزبهم، لا تهدأ لهم حركة ولا بال يبيتون أمام السجن ويتظاهرون في الشارع بوجه العدالة المستبدّة، ويواكبون زعيمهم في رحلته بين السجن والمحكمة ذهاباً اياباً، يتأهّبون ويلقون التحية، يبكرون بالحضور الى المحكمة يحتلّون قاعاتها، يُنصتون للصوت، علّهم يظفرون. وقد ظفروا أن «الحزب تعميري بحت نظامي تام، غرضه ممارسة الحقوق المدنية والقومية في ظروف حرجة»، بعد أن حُلّ الحزب بقرار سلطات الانتداب بمرسوم وقعه رئيس الجمهورية آنذاك اميل اده، غير أن هذا التهويل «الرئاسي» فشل في ترويع جريدة «المعرض» لصاحبها الصحافي والسياسي ميشال زكور الذي أقدم بمروءة الى إصدار عدد يشرح فيه قضية الحزب، وعُد هذا الإصدار انتصاراً للحزب وأدّى غرضه لجهة الإضاءة إعلاميا على حركة سعاده والتعريف بها بأقلام القوميين انفسهم ، رغم أن الرجل على عدم اتفاق مع مبادئ الحزب، وقد حفظ القوميون لزكور هذه النباهة فخلدوا دوره في أدبياتهم في ما بعد، عدا أنهم أقاموا له في حينه حفل تكريم بحضور سعاده شخصياً إثر خروجه من السجن، ووقد دعا زكور في هذا الإصدار أصحاب العقيدة اللبنانية أن يحذوا الحزب القومي «عقيدة ونظام» لأنهما أساس النجاح في القضايا الوطنية».
أما أبرز تلك الصحف التي كانت تصدر في مرحلة الثلاثينيات من القرن المنصرم والتي شاركت الحزب معركته الى جانب مجلة المعرض، جريدة المحرّر لصاحبها جبران تويني ثم النهار لاحقاً، جريدة لسان الحال لصاحبها خليل رامز سركيس، المصوّر المصرية، صحيفة الكرمل الجديد، جريدة فلسطين، هذه الصحف التي تعاطت مع قضية الحزب بمهنية مجردة، حيث نقلت أخباره بغير تحامل وبتجرّد ينطوي على شيء من التعاطف.
اما الصحف التي جاهرت بالعداء للحزب ولم تتوانَ عن نشر الأكاذيب عنه هي ايضاً من حيث لا تدري صبّت في خدمة مصلحة الحزب، لأنها استفزت الأقلام النبيهة للرد عليها، ودحض ادعاءتها ورد افتراءاتها.
وأكثر تلك الصحف شدّة والتي وصلت حد العداوة الصريحة كانت مجلة «البشير» التابعة لـ»الجزويت» التي تحوّلت من شهرية الى يومية لغرض التحريض على الحزب، والتشهير به، وصحيفة «صوت الشعب» للحزب الشيوعي، الذي كان في حينه يجافي عقيدة الحزب السوري القومي المعاكسة لتوجيهاته الأممية، وصحيفة البيرق الناطقة باسم الكتلة الوطنية، الى جانب صحيفتين ناطقتين باللغة الفرنسية «لاسيري» و»لوريان» والأخيرة من كثرة افترائها وفبركاتها، دفعت ميشال زكور لأن يكذبها بقوله عنها «أو يصدقون أقوال الفئة الخانعة ويصدقون جريدة «كالأوريان» لا تتورّع في الطعن بكرامة أبناء بلادها، يدخلون اليأس الى قلوب هذه الاكثرية الحية الطامحة الى حريتها».
سعاده يقيّم موقف الإعلام من الحزب
عدا أن سعاده لم يغفل تقييم الموقف الإعلامي من الحزب بمقال نشرته جريدة سورية الجديدة في سان باولو العدد الأول في 11 آذار 1938 يلخص فيه التغطية الإعلامية بأمر انكشاف الحزب محلياً وعربياً وخصّص الحيّز الأكبر لمجلة «البشير» بالتالي: «هي فرع مكمّل لقلم الاستخبارات الفرنسية. وهو من أكثر فروع الجاسوسية نشاطاً، هذه الجمعية رأت بعد نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي أن قوتها الجاسوسية قد أصبحت هزءاً وسخرية، لأن الحزب السوري القومي الاجتماعي تمكن من الأشغال ثلاث سنوات كاملات دون أن تدري بعمله جاسوسيتها الواسعة الانتشار، فنشطت لإنقاذ مركزها المهدّد بمحاربة الحزب فحوّلت جريدتها البشير التي كانت تصدرها كل شهر أو نصف شهر الى جريدة سياسة يومية غرضها الدس على النهضة السورية القومية الاجتماعية، والعمل على زرع الشقاق بين الشعب بالسياسة الأجنبية ومساعدتها السياسة الأجنبية وحلفاؤها، لأنها تخدم مصالحهم خصوصاً الموظفين الذين يرون منفعتهم في خدمة السياسة الأجنبية.
ورضي عن جمعية الجزويت المقام البطريركي الماروني وهو لا يدري أنها الألغام الموضوعة تحت السلطة الروحية الوطنية لتقويضها ولا يحتاج المراقب طويل عناء لإدراك استفحال شرّ هذه الجمعية الأجنبية الذي أصبح يهدد كل سلطة روحية وطنية».
اما في باقي الكيانات السورية فقد نشرت الصحف نبأ الانكشاف بشكل بارز لا يروي غلة إلا جريدتان فلسطينيتان، هما الكرمل وفلسطين، كانتا إيجابيتين للغاية وفي الدول العربية، بخاصة مصر، فقد نشر الخبر بشكل لا يدلّ على الدقة.
بيان مجهول
في أول بيان من نوعه، وعلى بعد خمسة أيام من انكشاف أمر الحزب، صدر بيان في الصحف مجهول المصدر يدافع عن الحزب، وإن بلغة ومصطلحات بعيدة بعض الشيء عن المفردات الحزبية التي يستعملها القوميون في أدبياتهم، ولعل السبب يعود للزمان المبكر على انتشار المفاهيم الحزبية لدى الأعضاء في بداية نشأة الحزب، ولكنه لقى ترحيباً من القوميين نظراً للأوضاع الطارئة، ومما جاء فيه:
«أن الحزب السوري القومي لم يؤلف لتقويض كيان الدولة وقلب نظامها بل لتحسين أخلاق الشبيبة وزرع روح القومية المجرّدة في قلوبهم، وتقوية روح التآخي والتضامن بين الطوائف والسعي لرفع الحواجز الاجتماعية بينها، في طريق التعاون والتفاهم ومساعدة الدولة المنتدبة بتحضير البلاد للاستقلال بعيداً عن كل دعاية أجنبية».
أول بيان رسمّي من خلف أسوار السجن
وسط المزاعم المُغرضة التي استهدفت الحزب الفتي القابع في السجن في قضية مشرفة من جانب الصحافة الصفراء، وقد وصل بها التحامل أنها وصفته بجمعية انقلابية هدّامة كان لا بُدّ من صدور بيان بتوقيع «الحزب السوري القومي» بتاريخ 3 كانون الأول 1935، واضعاً الأمور في سياقها الصحيح ويضع حداً للتكهنّات والأقاويل، ولو من خلف أسوار السجن وتحت أنف الاحتلال فصدر أول بيان حزبي هو الأول من نوعه جاء فيه:
«كثرت الإشاعات عن الحزب السوري القومي وتضاربت الأقوال في غايته ومراميه، فقد ذكرت بعض الصحف أنه «آلة في يد النازي يستعملها للوصول الى مأربه» وذهب الخيال ببعض المحررين الى تصويره جمعية انقلابية هدامة.. ويرجع السبب في ذلك الى جهل مبادئ الحزب ومراميه من جهة عدم النزاهة والتجرد من جهة ثانية»، «أما مبادؤه فلا حاجة الى ذكرها فقد بينتها بعض الجرائد الحرة، التي تبغي الحق لوجه الحق».
«نحن عصبة شاهدنا ما صارت اليه بلادنا من الذلّ والمسكنة والبلبلة السياسية والتقهقر الاقتصادي، فآلمنا ما شاهدناه وحز بأنفسنا ما لمسناه فأخذنا نعمل الفكر لتوحيد كلمتنا وتنظيم صفوفنا.. هدفنا مشاركة السلطة المنتدبة في تهيئتنا للحكم الاستقلالي».
أسعد عقل يحرّض.. احذروا هذا الحزب
البيان الأول للحزب أقلق بعض الأقلام منها قلم أسعد عقل من جريدة البيرق فقرّر أن يكتب محذراً الشبيبة بمقال حمل عنوان «تحذير الى الشبيبة اللبنانية» بتاريخ 4 كانون الأول 1935، يبدي فيه قلقه وحيرته، مما ورد في البيان، وفي ظاهرة انضمام الشباب اللبناني الى هذا الحزب السري الذي يدعو الى الوحدة السورية والاتحاد القومي، والمستغرب أنه يُعادي الحزب لأنه يدعو الى «نبذ الحزبيات المحلية والنعرات الطائفية والاستقلال بالطرق الدبلوماسية وتهيئة الناشئة للحياة الاستقلالية، يؤلمنا جداً أن فريقاً من الشباب اللبناني الوطني الراقي قد خدع تحت تأثير المصاعب الحاضرة والمشوّقات المغرية للانتساب ثم يعيب على الحزب انتشاره: «لهذا الحزب فتغلغلت فروعه في العاصمة والجبل حتى قيل إن قضاء المتن وحده يضمّ عشرين فرعاً من هذه الجمعية السرية».
الكرمل الفلسطينية.. الامتحان العسير
كانت من الصحف التي تابعت التحقيقات مع الزعيم وأركان قيادته ولم تتورّع عن «تمرير» الأخبار الطريفة عن سير التحقيق خاصة في قضية خريطة مطار رياق التي أثير حولها الكثير، وكيف أن الرفيق نجيب الفيكاني الذي كان يعمل في إحدى دوائر مطار رياق العسكري الفرنسي، أعطاها للحزب ظناً منه أنها تفيده بشيء، رغم أنها على غير أهمية كما أقرّ المستنطق، اما الطريف بالقصة فإن الرفيق نجيب الفيكاني حضر من حيفا الى دائرة التحقيق ووضع نفسه تحت تصرّف المستنطق، فقط لأن الزعيم لديه الثقة بأنه سيحضر. وفعلاً حضر الفيكاني ونجح اختبار الثقة، رغم أن الامتحان كان عسيراً..
جريدة فلسطين: قومي سوري يوضح
في سياق تهافت الصحافة خلف القوميين واستقصاء أخبار الحزب الذي فاجأ العالم بظهوره آنذاك نشرت جريدة فلسطين في 27 تشرين الثاني 1935 تصريحاً لأحد الرفقاء الذي أوضح للجريدة بأن الصحافة تنشر أخباراً متناقضة عن الحزب، واضاف: «نحن ماضون بعملنا حتى النهاية وسترون عندما تنقل قضيتنا الى القضاء أننا بعيدون عن أي تدخل أجنبي وبعيدون في الوقت نفسه عن القيام بكل ما يخلّ بالأمن العام، وليس لنا هدف الا المحافظة على اقتصاديات البلاد وتنمية صادراتها والحصول على حرية البلاد السياسية وسيادتها».
ميشال زكور.. نذير الخطر العاقل
أما الأستاذ ميشال ذكور أحد الذين أعجبوا بحركة الحزب ونظامه حتى أنه لم يتوانَ عن زيارة سعاده في سجنه إبان الاعتقال الثاني ظهر له مقال بعنوان «حول الحزب السوري يأسان: روحي ومادي»، بتاريخ 4 كانون الأول 1935 حمل في طياته تصوّراً ووصفاً موضوعياً في قضية الحزب، طبعاً من وجهة نظره، يقول في مقدمته: شغل التحقيق مع معتقلي الحزب السوري القومي الصحف والأندية، وصار هذا الحزب وتشكيلاته وما أحيط بهما من كتمان، حديث الناس، بل ما برح مخبرو الصحف ينقلون كل يوم الى جرائدهم أخباراً جديدة وطريفة عن الحزب وأعضائه. ولا ندري ما هو مبلغ الصحة من هذه الأخبار، لأن الحكومة لم تشأ حتى الآن أن تُطلع الناس في بلاغ رسمي عن حقيقة الحزب وما دار حوله من تحقيقات، ولا تؤاخذ الحكومة على ذلك، لأنها قد تكون مثلنا غير مطّلعة على مجريات التحقيق، الا مما تنشره الصحف.
وأضاف: «أن عدم اتفاقنا مع الحزب لا يعني مع مبادئ الاساسية الحزب، هذا لا يمنعنا من ان نبحث عما هي الاسباب الجوهرية التي دعت الى هذا النشاط السياسي والحزبي في البلاد، ولا سيما قد عرف الناس أن جميع المنتمين الى هذا الحزب هم من الشباب المتعلمين الراقين. يا تُرى ما هي الاسباب التي دعت هذه الشبيبة «اللبنانية» الراقية الى الانتفاض والالتفاف «حول القومية السورية»؟
وختم بالقول: اننا مهما أردنا ان نقلل من قيمة هذا الحزب، فهذا لا يمنع مطلقاً بأنه طليعة غليان الأفكار، خصوصاً في افكار الشبيبة وعندما نرى الشبان قد بدأوا يفكرون بمثل هذه القضايا الهامة، فلا ريب في أن ذلك يكون نذير الخطر العاقل من تدبّر الأمور».
الحزب درس وعبرة..
«الحزب درس وعبرة.. الحزب القومي ينتشر» هو عنوان مقال ميشال زكور الذي ورد في العدد الخاص عن الحزب، والذي عرض فيه الأسباب التي استمدّ الحزب قوته قائلاً: «إننا أردنا ونحن الثابتين على عقيدتنا اللبنانية أن نجابه الحقائق والوقائع ونعالج الحالة الحاضرة، كما هي في الواقع، لا كما كنا نتمى أن تكون».
«الحزب السوري القومي ينتشر بسرعة في لبنان ولا داعي للتحقيق وإخفاء الحقيقة، فإننا نشعر كل يوم بسرعة هذا الانتشار، وربّما استفقنا بعد حين ومبادئ هذا الحزب قد تغلغلت في الأكثرية اللبنانية، وإذ ذاك لا تنفع المحاكمة ولا السجن، لأنهما يطالان الأشخاص ولا يطالان المبادئ».
«الاوفر».. الشرق يستيقظ
انضمّت جريدة «الاوفر» الصادرة آنذاك الى حملة التشويه التي تعرض لها الحزب إثر إعلان أمر انكشافه، فالصحف الفرنسية ومنها جريدة «الاوفر» التي نشرت مقالاً بعنوان «الشرق يستيقظ» وتبرّعت بنشره جريدة البيرق الصادرة بتاريخ 17 كانون الاول، يتحدث المقال عن مؤامرة على السلطة الفرنسية في سوريا»، ومما جاء في المقال: «لقد وقعت في الشرق الأدنى مؤخراً أمور خطيرة تستدعي الاهتمام الجدّي فقد اكتشف رجال الأمن مؤامرة خطيرة جداً في بيروت، تعمل للقضاء على السلطة الفرنسية والقيام بثورة واسعة في البلاد. وأظهر التحقيق أن الشباب السوري المثقف قد ألف حزباً ثورياً هتلرياً، يحيك في الخفاء خيوط الثورة في البلاد وقد قبض حتى الآن على ثلاثين شخصاً، من الذين يشيعون الوطنيين السوريين وعرف أن هنالك أكثر من الف شاب منضم إلى الحزب الخطير».
وأشارت الى أن رجال القضاء الفرنسي في سورية «لم يستطيعوا حتى الآن انتزاع كلمة واحدة من المقبوض عليهم، تشير الى المرجع الذي يتّصلون به، فهم متكتمون الى آخر حدود التكتم». وقد حذرت الجريدة من أن ما يجري في سورية الآن يجب أن نهتم به كثيراً، فهنالك أفكار بعيدة ترمي لتأليف امبراطورية عربية تشمل سورية وفلسطين ولبنان وبقية البلدان العربية في الشرق الأدنى».
«الكرمل الجديدة» تردّ
وهذا المقال استدعى على الفور رداً من جريدة «الكرمل الجديدة» الصادرة في فلسطين بتاريخ 18 كانون الثاني: اتخذ الحزب لنفسه الصفة السرية ضناً بمبادئه من أن تتناولها ألسنة وأيدي ذوي المصالح الشخصية، ولكي لا يظهر للرأي العام والسلطة إلا بعد أن يصبح قوة لا يمكن أن تُسحق وتصبح مبادؤه غرساً لا يمكن استئصال جذوره من الأفكار والقلوب.
وقد تمكّن الحزب من الاحتفاظ بصفته السرية هذه مدة ثلاث سنوات تمكن من خلالها أن يضم تحت لوائه بضعة آلاف من عناصر الشباب ذلك العنصر الذي ما زال بعيداً عن زغل الساسة وبعيداً عن الأفكار العتيقة البالية بعيداً عن المطامع والأغراض الشخصية ذلك العنصر المجدّ إلى الرقي، ذلك العنصر الذي لا تقوم حركة وطنية الا على أكتافه».
وهذا «الحزب استطاع خلال عمله الحزبي ضمّ بضعة آلاف من عنصر الشباب المجدّ والطموح الى الرقي. وتمكّن هذا الحزب ايضاً من إنشاء ما يقارب من مئة فرع في جميع انحاء سورية شمالاً وجنوباً.
ولم يكن افتضاح أمره واعتقال زعيمه وأركانه الا ليزيده قوة وعدداً ويزيد أعضاءه إيماناً بمبادئه وحباً لزعيمه.
وبالرغم مما تبذله السلطة لتحويل الرأي العام عن الحزب وتنظيمه بشتى الوسائل كالإشاعة، بان له صلة بإحدى الدول الاجنبية وما شاكل، وبالرغم مما كانت بعض الجرائد تنشره من أخبار ملفقة عن الحزب، وبالرغم من أن بعضها الآخر لا يجرؤ أن ينشر عن الحزب إلا أخباراً مقتضبه دون تعليق من أي نوع لا يزال الرأي العام في سورية وخارجها يعطف على الحزب ويناصره ويندفع الألوف من شبان سورية الى الانخراط فيه والسير تحت لوائه».
مجلة الجمهور «لو لم أكن أنا نفسي»
في استفتاء وجهته مجلة الجمهور الى عدد من أدباء لبنان ومفكّريه للإجابة على السؤال التالي: «لو لم تكن أنت نفسك» اختارت من بينهم انطون سعاده. وقد نشرت المجلة رد سعاده بتاريخ 22 تشرين الثاني 1936 فكانت تلك القطعة الأدبية الرائعة التي تجلّت فيها رقة وشاعرية أنطون سعاده وقد اختار في نهايتها أن يبقى نفسه:
لو لم أكن أنا نفسي لأحببت أن أكون هذا اللّغز النفسيّ الغريب بمتناقضاته، العجيب بملاءماته، الرّهيب بأسرار قوّته، الباهر ببساطته. هذا اللّغز المتحجَب في داخلي بحجب الخفاء حتى ينجلي عن شعب مؤلّف من ملايين الأنفس الحيّة، يخطو إلى الأمام خطوات الفلاح، وعن أمّة ستعود إلى الحياة وتثب للمجد. لو لم أكن أنا نفسي لأردت أن أكون أنا نفسي.
مجلة المصوّر المصرية.. يفاخرون ويجاهرون
مقال تحت عنوان «الحزب السوري القومي برهان على تطور الحالة الفكرية والنفسية في سورية ولبنان»
ويبدو أن مصر كانت لا تزال تذكر الدكتور خليل سعاده العالم المعروف ورئيس جمعية الرابطة السورية في البرازيل، والد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده وهو من رجال التعليم في الكلية الأميركية في بيروت. يشير المقال الى أن الحزب يسعى الى توحيد سورية الكبرى بما فيها سورية الحالية، لبنان وسورية الجنوبية أو فلسطين. ويعمل لاستقلال هذه الوحدة استقلالاً تاماً وقد أسس منذ سنتين وظل أمره مكتوماً، بالرغم من انضمام بضعة آلاف من خيرة شباب البلاد المثقف اليه، ونظام الحزب يدل على مهارة مؤسسه، بل على نبوغه، فقد حسبوا حساباً لكل كبيرة وصغيرة وقسموا وظائف رؤساء الحزب، بحيث تتناول الشؤون الخارجية والداخلية والاقتصادية والحربية والمالية وغيرها، والجدير بالذكر أن بين أعضائه كثيرات من كريمات العقائل والأوانس».
وختم المقال: «لم ينكر أحد من الأعضاء الذين اعتقلوا بالحزب بل انهم جميعاً كانوا يجاهرون ويفاخرون به، وقيام هذا الحزب في بيروت برهان على تطوّر الحالة الفكرية والنفسية في البلاد الخاضعة للانتداب الفرنسي وعلى الخصوص لبنان».
جريدة الشعلة المصرية.. وطنية صادقة
نشرت تعليقاً على أثر انتهاء المحاكمات وصدور الأحكام بحق سعاده ومساعديه ختمته بالقول «إن الشباب في الأقطار الشقيقة متّقدة بالوطنية الصادقة الملتهبة».
مجلة العرفان..
من جهته كتب الشيخ أحمد عارف الزين في مجلته العرفان في عددها لشهر حزيران «الزعيم انطون سعاده».
الشاعر القروي… فلتحيا يا أنطون إبن أبيك
وصلت أصداء انتشار الحزب إثر انكشاف أمره الى البرازيل التي سارع فيها شعراء المهجر ومثقفيه الى التباهي بأنطون سعاده ومباركته وحزبه، ومن بينهم الشاعر القروي في «الزمن الأول» إذ كتب في أول شباط 1936 في صحيفة «لاباز» البرازيلية يقول فيه: «فوز الحزب الحزب السوري القومي وانتشاره هذا الانتشار السريع في طول البلاد وعرضها لم يجئ دليلاً على مقدرة الزعيم وحسن بلائه فقط، بل كان برهاناً ناصعاً على أن الشعب اللبناني الذي كنا نحسبه فقد مروءته المعهودة بأسلافه.. هو شعب لا زالت تنبض في عروقه دماء.
فلتحي يا انطون يا ابن أبيك العظيم، يا شبل ذلك الأسد الرئبال وحييت أيتها الوجوه الصباح الحافة بوجه الزعيم المحبوب كما تحفّ الأقمار بشمس النهار.
الشاعر الياس فرحات.. أول ظهورك كبير يا أنطون
وأيضاً في وجه الشاعر الياس فرحات عبر الصحيفة ذاتها في 11 شباط 1936 جاء فيها: حياك الله يا أنطون وسدّد خطاك وبيّض الله وجهك يا مبيّض وجه الوطن ووجه اخوانك المهاجرين، لقد كان أول ظهورك كبيراً يا أنطون حتى كأنك الشمس وقد خرقت حرمة النظام اذ بزغت بغتة في منتصف الليل.
وللصحف التركية نصيب
أما أكثر الأمور غرابة والمضحكة في آن وصول قضية الحزب حتى إلى الصحف التركية التي ادعت ان الحزب له اتصال بالخديوي عباس حلمي وينوي المناداة به ملكاً بعد توحيد سورية!
وبدعة الحُرم الكنسي
من البدع التي سيقت ضد الحزب كان بطل إحداها الخور أسقف لويس الخليل ومن أطرف ما جاء فيها، كما نشرته جريدة البشير بتاريخ 28 تموز1936 «أن الحزب بجملته جمعية سرية تعمل على مناهضة الدين وتقويض الوطن، مسوقاً في كتابه أدلة بحيث يقع الحزب وأعضاؤه تحت طائلة الحرم النافذ، كما هو محدّد في قرار مجمع التفتيش المقدس الصادر في العام 1884. والأطرف من هذا ان الأب المذكور مثل أمام البطريرك بطرس عريضة وقد بارك البطريرك هذا الحرم، حيث استمرت البشير في أعداد لاحقة بإصدار أخبار عن هذا الحرم المضحك.
جريدة الرابطة.. لا أثر للإشاعات
قال المندوب القضائي في قضية محاكمة الحزب من قبل محكمة الجزاء الأجنبية في 25 كانون الثاني 1936 إن «القضية التي أشرنا اليها في عدد أمس، وقلنا إنها قضية تعميرية لا أثر لكل ما يُشاع حولها من أنها جمعية إرهابية اتخذتها بعض الدول الأجنبية، جلّ ما هنالك أن فريقاً من الشبان المفكر رأى بعينه الوقادة ما آلت إليه حالة الأمة من بؤس وشقاء والشبيبة بنوع خاص، من التخنث والميوعة فألفوا ذلك الحزب الذي نتابع فصوله على مسرح القضاء.
النهار.. تشهد
بدورها روت جريدة النهار في عددها الصادر بتاريخ 25 كانون الثاني 1936 بعض تفاصيل المحاكمة، ومما جاء على صفحاته: «والاستجواب مظهر آخر من مظاهر النظام والقوة والعقيدة، فكل منهم يناقش الآخر بالإقرار ويريد أن يتحمّل شيئاً من أعباء المسؤولين، ولكنّهم في تزاحمهم لم ينسوا أنّهم متّحدون بالغاية والهدف فلم يناقض أحدهم الآخر، أما الزعيم، فهو هادئ ساكن يعود إليه رئيس المحكمة فيسأله عن قضايا هامة ويتلقى أجوبة صريحة لا تترك مجالاً للشك، أنه يريد أن يحتفظ بالمسؤولية مهما كان نوعها ويخشى أن ينتقل جزء منها الى كتف شاب من أعضاء حزبه».
وتتابع النهار: «راع المستمعين ما شهده من وحدة في الرأي واتفاق الكلام، فكل منهم ساكن يلقي الأجوبة بهدوء ممزوج بشيء كثير من توقّد الذهن وحدّة الذكاء. ولا غروَ فهم شباب تثقفوا في أحسن الجامعات وهضموا مبادئ ثقافتهم الاجتماعية، فلم تكن المحاكمة سوى فرصة انتهزوها ليظهروا قوتهم الكامنة في زوايا نفوسهم الشابة الناضجة».