حول الكتلة التاريخية
زياد حافظ
بينما يقع الإرباك والحيرة بين النخب الحاكمة في الوطن العربي وخاصة في تلك الدول التابعة للقرار الأميركي ولقوى العولمة في الغرب في مواجهة التحدّيات التي يفرضها التاريخ والواقع السياسي والاقتصادي والثقافي مُطعماً بالواقع الديموغرافي والجغرافي، تقوم الجماهير العربية بحراك واسع النطاق يهزّ به قواعد الارتكاز للنظام العربي القائم وعلاقته العضوية مع الغرب. والنجاحات التي ما زال يحقّقها الحراك الجماهيري العربي فرضت إعادة الاعتبار لما سمّاه المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي 1891-1937 في مطلع القرن الماضي ومن بعده المفكّر المغربي الراحل محمد عابد الجابري 1935-2010 في عام 1981 وذلك في مواجهة الاستعمار، وهي الكتلة التاريخية . وهذه الكتلة تبنّاها كل من مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي. فغرامشي قام بالتنظير «للتحالف بين البروليتاريا والفلاحين، بين العمال الصناعيين والزراعيين. ومن يقوم بتوطيد مثل هذا التحالف هم الطليعة المثقفة. وفي أفق هذه النظرة لطبيعة وكيفية التحالف أسس غرامشي لمفهوم الكتلة التاريخية حيث يشكّل المثقفون «الإسمنت العضوي الذي يربط البنية الاجتماعية بالبنية الفوقية ويتيح تكوين كتلة تاريخية». أما بالنسبة للمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومعهما مركز دراسات الوحدة العربية، فإن الكتلة التاريخية هي تجمّع القوى السياسية الرئيسية في الوطن العربي الملتفة حول ثوابت الأمة المتمثلة في المشروع النهضوي العربي الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية، وهي التيار القومي العربي بسلالاته الثلاث، والتيّار الإسلامي، والتيّار اليساري، وأخيراً التيّار الوطني الليبرالي.
في هذا السياق أقام مركز محمد عابد الجابري ندوة فكرية على مدى يومين 26 و27 نيسان/ابريل 2019 في مدينة الرباط في المغرب بحث خلالها أربعون من خيرة الباحثين والمفكّرين والناشطين جدوى الكتلة التاريخية في الظروف الراهنة والسبل لتطويرها وتحديد المعوقات في وجهها. كما تناولت الندوة مقاربات حول فكرة غرامشي وفكرة الجابري إضافة إلى مقاربات تاريخية حول تطبيق تلك الفكرة. نجاح الندوة كان مميّزا في نوعية المشاركة كما في نوعية الحضور من الشباب المغربي. وربما كانت الصدف أن الندوة أقيمت في محيط الجامعة ما جعل ممكناً حضور حفل من الشباب للاستماع وفي بعض الأحيان المشاركة عبر الأسئلة. غير أن العلامة الفارقة كانت بالمروحة الواسعة من التيّارات السياسية العربية التي جلست على منصّة واحدة. ففي جلسة الافتتاح ألقى السيد أحمد الريسوني رئيس اتحاد علماء المسلمين كلمة عبّر خلالها عن ضرورة الكتلة التاريخية، وكذلك الأستاذ عبد الرحمن بن عمر شيخ الحقوقيين في المغرب والأستاذ محمد سعيد ايت ايدر أحد رموز الحركة اليسارية في المغرب، فالقومي العربي جلس إلى جانب الماركسي الذي جلس إلى جانب الإسلامي الذي جلس إلى جانب الليبرالي.
وبالفعل، لم تكن صدفة أن تقوم مؤسسة محمد عابد الجابري بتلك الدعوة، ولا صدفة أن يكون أمينها العام المحامي خالد السفياني الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي والمنسٌّق الحالي للمؤتمر القومي الإسلامي. وهو الذي استطاع أن ينظّم سلسلة من المظاهرات المليونيّة ضد التطبيع ودعم المرصد المغربي لمقاومة التطبيع في المغرب. وهنا أولى دلائل فوائد هذه «الكتلة التاريخية» التي تنتقدها جهات عديدة لم تستوعب ضرورتها حتى الآن. فالمظاهرات المليونيّة المناهضة للتطبيع مع العدو الصهيوني التي نجحت في المغرب ضمّت كافة أطياف المجتمع المغربي ومكوّناته السياسية. فالأمة تجتمع على قضية فلسطين وإن اختلفت على قضايا أخرى. وهنا كانت الدلالة الثانية حيث «الكتلة التاريخية» متّفقة على موضوعين أساسيين وهما مجابهة الاستعمار بكافة أشكاله القديمة والجديدة وعلى قضية فلسطين إضافة إلى الأبعاد الستة للمشروع النهضوي العربي الاستقلال الوطني، الوحدة، المشاركة، التنمية، العدالة الاجتماعية، والتجدّد الحضاري . فقضية فلسطين متلازمة مع محاربة الاستعمار القديم الجديد والكتلة التاريخية ضرورة وواجب في مواجهة التحدّيين. وجوهر تلك الكتلة هي المقاومة لكافة أشكال الظلم سواء كان خارجياً بسبب الاحتلال أو داخلياً بسبب التبعية والاستبداد والفقر وفقدان العدالة الاجتماعية.
هنا كانت قيمة المقاربة التاريخية لتجارب حركة التحرّر العربي في تجسيد أشكال من الكتلة. فمداخلة الأمين العام للمؤتمر القومي العربي الأستاذ مجدي معصراوي وهو من مصر أشارت إلى أن حركات التحرّر العربية وفي العالم تكوّنت من شتّى التيّارات السياسية كمكتب تحرير المغرب الذي أوجده في القاهرة الثائر المناضل عبد الكريم الخطابي 1882-1963 وحركة التحرّر الفلسطيني «فتح» وجبهة التحرير الوطني في الجزائر على سبيل المثال. كما كانت مداخلة المفكّر المغربي الدكتور عبد الصمد بالكبير حول حركات التحرّر في العديد من الدول التي تحالفت في مرحلة ما مع من يشكّل التناقض التاريخي معها في مواجهة الاستعمار. ويذكّر أن الرأسمالية في الغرب تحالفت مع الاتحاد السوفيتي في مواجهة الحركة النازية خلال الحرب العالمية الثانية. الخلاصة التاريخية هي أن مواجهة خصم تاريخي ووجودي قد تستدعي التحالف مع سائر مكوّنات المجتمع في معركة التحرير الوطني. وفي السياق نفسه نضيف أن المناضل عبد العظيم المغربي من مصر لفت نظرنا إلى أن الرئيس جمال عبد الناصر ابتدع صيغة تحالف قوى الشعب العامل كشكل من أشكال الكتلة التاريخية، وهي قريبة من صيغة غرامشي، والتي تتجاوز منهج صراع الطبقات المدمّر للمجتمعات إلى صيغة بناء المجتمع عبر تحالف قواه. وفي المرحلة الحالية قارب نور الدين العرباوي، وهو من تونس، مأزق السلطة في تونس وضرورة الكتلة التاريخيّة. أي بمعنى آخر في الماضي البعيد القريب وفي الحاضر أثبتت «الكتلة التاريخية» جدواها. ولم تخلُ الندوة من مقاربة تقييمية للتجارب التاريخية للكتلة قدّمها بدوره الدكتور أحمد ويحمان من المغرب حول النظريّة واختبارها والدروس التي يمكن استخلاصها.
«الكتلة التاريخية» لم تكن وليدة الصدفة بل نتيجة تفكير عميق بدأ مع المفكر الإيطالي غرامشي وتبنّاه في ما بعد كل من محمد عابد الجابري ومركز دراسات الوحدة العربية. ويعود للدكتور خير الدين حسيب ولمركز دراسات الوحدة العربية الفضل في إجراء سلسلة من النقاشات المعمّقة وإقامة الندوة التاريخية بحد ذاتها عنوانها «الحوار القومي الديني». أقيمت تلك الندوة في القاهرة في أيلول/سبتمبر 1989 شارك فيها محمد عابد الجابري وعبد العزيز الدوري وطارق البشري ورضوان السيّد وأحمد كمال أبو المجد وأحمد صدقي الدجاني وجوزيف مغيزل ومحمود محمد الناكوح الذين قدّموا أوراقاً نقاشية مميّزة ندعو الجميع إلى قراءتها أو إعادتها في الذاكرة راجع «الحوار القومي الديني»: أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1989، الطبعة الثانية 2007 . كما أنه شارك في النقاش عدد كبير من المفكّرين والباحثين والناشطين لا يسعنا ذكرهم في هذه المداخلة. المهم هنا أن تلك الندوة التي تناولت قضايا عديدة تمّ التوافق عليها مع مراجعة صريحة لعدد من القوى السياسية لتجارب ماضية. والأهم في كل ذلك كان التأكيد على استمرارية الحوار بشكل دوري فكانت ولادة المؤتمر القومي العربي عام 1990 تجسيداً لما أسفرت عنه تلك المناقشات وخاصة في ضرورة إيجاد «الكتلة التاريخية» وتلاه بعد بضع سنوات المؤتمر القومي الإسلامي 1994 . فكانت المواقف التاريخية في مناهضة الحصار فالعدوان على العراق ومن بعده رفض الاحتلال الأميركي، والتأكيد على ثوابت الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين وتبنّي بل احتضان خيار المقاومة، والتنديد بالنظام الرسمي العربي الذي غّطى احتلال العراق وغزو ليبيا والحرب الكونية على سورية وعلى اليمن. كما أن تبنّيه للمشروع النهضوي العربي كهدف يجمع العروبيّون بكافة تشكيلاتهم على تحقيقه شكّل متن الخطاب العروبي الجديد.
وتأتي ندوة مؤسسة محمد عابد الجابري حول «الكتلة التاريخية» في مرحلة تاريخية شكّلت امتحاناً قاسياً للعلاقة بين المكوّنات السياسية للأمة. فتداعيات ما تمّت تسميته بـ «الربيع العربي» تركت آثاراً سلبية على العلاقة بين التيّارات خاصة في موضوع سورية وإلى حدّ ما في مصر ما زلنا نعيش تداعياتها. تدارك المؤتمر القومي العربي ذلك، وفي أعقاب اجتماع أمانته العامة في أيلول 2012 حيث دعت إلى جلسة نقاش بين الأطراف المعنية قدّمنا خلالها ورقة بحثية طرحت السؤال المفصلي التالي: هل العلاقة مع التيّار الإسلامي السياسي ما زالت قائمة وممكنة؟ وكيف يمكن تجاوز الأزمة القائمة آنذاك؟ الإجابة على ذلك السؤال بالنسبة للمؤتمر القومي العربي ومعه المؤتمر القومي الإسلامي كانت واضحة وصريحة. فالعلاقة مستمرّة فكانت مبادرات عدّة من رموز المؤتمرين الاتصال برموز جماعة الإخوان المسلمين وذلك في دورة المؤتمر القومي العربي الذي عُقد في القاهرة في حزيران/يونيو 2013 قبل حراك 30 يونيو الذي أطاح بالرئيس مرسي. وعلينا أن نعترف أن تلك الجهود لم تثمر لكن العلاقة استمّرت وإن كانت باردة. لكن بالمقابل كانت الحوارات والنقاشات مع التيّارات الإسلامية الأخرى في المشرق وخاصة في المغرب تسعى إلى العودة إلى المناخ الذي نتج عن ندوة «الحوار القومي الديني» المذكورة أعلاه فأدّت إلى نتائج إيجابية وتقارب في وجهات النظر في العديد من الملفّات ما جعل ممكناً إقامة ندوة «الكتلة التاريخية» في هذه المرحلة. كما لا بدّ من الإشارة إلى أن لجنة المتابعة للمؤتمر القومي الإسلامي بمبادرة للمنسّقين للمؤتمر الأستاذ منير شفيق ومن بعده الأستاذ خالد السفياني استمرّت في تشجيع الحوار بين مكوّنات المؤتمر بما فيهم جماعة الأخوان المسلمين. غير أن ذلك الحرص على العلاقة لم يكن ليرضي النظام الرسمي العربي الذي كان له موقف سلبي من المؤتمرين القومي والقومي الإسلامي بسبب ذلك الحرص. لكن المؤتمر العربي استمرّ بالتمسّك بتلك العلاقة إلى أن جاءت التحوّلات الميدانية والسياسية على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي التي أطلقت مجدّداً أقنية الحوار.
هنا تأتي أهمية إقامة الندوة الفكرية التي دعت إليها مؤسسة محمد عابد الجابري. فالتيّارات الإسلامية المشاركة من المغرب العربي أبدت حرصها على تلك العلاقة، وبالتالي تمسّكها بـ «الكتلة التاريخية» حيث شهدنا مناقشات من الأطراف المشاركة كافة تؤكّد ضرورة التمسّك بها. كما في حوارات جانبية وهذه من فوائد تلك الندوات أقرّ عدد من ممثلي التيّارات الإسلامية إقامتها لمراجعات عميقة نأمل ظهور تباشيرها قريباً. وربما سلميّة الحراك الشعبي الذي تشهده حتى الآن كل من الجزائر والسودان دليل على العمل المشترك على الأقلّ بالحد الأدنى لمنع الانزلاق إلى متاهات الحروب الأهلية التي لا يريدها أحد. هذا ما استخلصه الدكتور أحمد الدان من الجزائر في مداخلته حول تجلّيات «الكتلة التاريخية والتحوّل الحضاري»، وفقاً لقراءة في تجاوز الخلافات في الجزائر.
من جهة أخرى لا بدّ من الإشارة إلى أن الأمين العام للمؤتمر القومي العربي الأستاذ مجدي معصراوي أشار خلال الجلسات النقاشية إلى أن الناصريين في مصر قاموا بمراجعة العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين وخاصة في حقبة الرئيس جمال عبد الناصر. هنا نرى مدى أهميّة وبُعد الرؤية للعضو المؤسّس والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي السيد معن بشور عندما أطلق «الميمات الأربع» في صنعاء عام 2003. فمواجهة الاحتلال الأميركي للعراق تبدأ أولاً بالمقاومة وثم بالمراجعة فالمصالحة فالمشاركة كقاعدة تعمّم في مختلف أقطار الأمة. الكلمة السياسية التي ألقاها الأستاذ معن بشور في جلسة الافتتاح، ومن بعد ذلك في أولى جلسات النقاش أعطت البعد السياسي والمستقبلي لـ «الكتلة التاريخية» وضرورتها والتي تستكمل خطاباً أرسخه على مدّة أربعة عقود من خلال فهمه للبعد الوحدوي للعمل القومي والهادف إلى تجميع كافة القوى الحيّة في الأمة.
لم تقتصر الندوة في الرباط على مقاربة الأمور كما ذكرناه آنفاً بل تناولت قضايا فكرية وتصوّرات مستقبلية. فهناك مَن بحث في مضمون «الكتلة التاريخية» عند كل من غرامشي والجابري مداخلة الدكتور إسماعيل علوي من المغرب ودور اللغة العربية فيها في مداخلة مميّزة للدكتور عبد اللطيف عبيد من تونس. أما الدكتورة خديجة الصبار من المغرب فركّزت في مداخلة قيّمة دور الثقافة في «الكتلة التاريخية» ما شكّل في رأينا إضافة على فكرة غرامشي ودور المثقف الطليعي. أما الدكتورة عزيزة البقالي من المغرب، فأكدّت دور المرأة والمسألة النسائية بشكل عام في بناء الكتلة. وأخيراً كانت مداخلة الدكتور جميل ولد منصور من موريتانيا عنوانها «نحن و «الكتلة التاريخية» عند الدكتور محمد عابد الجابري».
والمستقبل كان في صلب النقاشات وبعض المداخلات والأوراق التي قدّمت. فمداخلة الإعلامي الأستاذ سامي كليب حول واقع الأمة وضرورة تشكيل «كتلة مستقبلية» تلاقت مع جوهر الكتلة بحد ذاته، حيث ركّز على دور الشباب والمرأة في تكوين الكتلة. هذا ما أكّدته مداخلة الدكتور محمد الحمداوي من المغرب على أن «الكتلة التاريخية» أساس الميثاق الديمقراطي من أجل التغيير. تلاقت تلك المداخلات مع مداخلة الدكتور عبد القادر الحضري من المغرب حول التحدّيات التي تواجه «الكتلة التاريخية». أما البعد الاقتصادي للكتلة فكان حاضراً في مداخلة قدّمها الدكتور مصطفى الكثيري من المغرب والدكتور جواد العراقي من المغرب حول التكامل الاقتصادي. أما نحن فقدّمنا عرضاً حول ورقة بحثية أعددناها لمقتضيات الندوة حول ضرورة الانصهار الاقتصادي عبر التشبيك التكاملي في البنى التحتية في المرحلة الأولى تمهيداً لتوحيد الاقتصاد العربي.
وأخيراً وليس آخر كانت فلسطين حاضرة في معظم الحوارات والنقاشات منذ بداية الندوة حتى اختتامها كما كان الوجود المميّز لوجوه فلسطينية أكّدت على ضرورة الكتلة في مواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين. فكانت مداخلة الأستاذ عباس زكي والمفكّر الأستاذ منير شفيق والدكتور مصطفى البرغوتي والدكتور ماهر الطاهر وفتحي كليب تصبّ في ذلك الاتجاه.
من نتائج الندوة حول أهمية «الكتلة التاريخية» تقرّرت إقامة ندوات دورية حول الموضوع تبنّاها رئيس الوزراء في المغرب الدكتور سعد الدين العثماني الذي حرص على حضور الافتتاح للندوة ولجلستها الختامية ولذلك دلالات عديدة تنبع من صلب ما ذكرناه في هذه المقاربة.
كاتب وباحث اقتصادي وسياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي