لبنان: تحلل الدولة
وليد زيتوني
عادة، لا تظهر نتائج الأحداث بشكل فوري، بل كثيراً ما تحمل تبعات غير مباشرة أو بعيدة المدى. وبالتالي لا يمكن الحكم عليها أو تقييمها إلا بعد انكشاف العوامل التي أدّت إلى قيامها من البعدين الذاتي والموضوعي. وعلى هذا الأساس يصبح الزمن والتاريخ كفيلين بجلاء الحقيقة على رغم اختلاطها بما يواكبها من عوامل تضليل وتورية، ومن يوقد سعيرها داخلياً وخارجياً، وبالطبع الجهة أو الجهات المستفيدة منها.
ويبدو أن الدولة كالعناصر الكيماوية تماماً تتفاعل بحرارة الأحداث سلباً وإيجاباً، أي بتعرّضها لحرارة عالية أو ساخنة كالحروب إنْ كانت داخلية أو خارجية، يؤدّي هذا التفاعل إلى زيادة تماسكها واندماجها، أو بالعكس إلى تفككها وانحلالها.
الأحداث الداخلية في لبنان وإنْ كانت باردة بالمعنى العسكري، على نقيض الأحداث الدائرة في المحيطين القومي والعربي، إلا أنّ نتائجها تبدو أكثر خطورة وأشدّ فتكاً بكيان الدولة إلى درجة التحلل الكامل. في حين أنّ الأحداث في الكيانات الأخرى على رغم سخونتها، فما زالت هذه الكيانات تحافظ حتى اللحظة على درجة عالية نسبياً من مقوّمات الدولة ومؤسساتها.
لا شك، أنّ ظواهر التحلل لمؤسسات الدولة في لبنان ظاهرة للعيان. نقول التحلل وليس الانحلال كون الانحلال هو حالة مرضية موقتة تمكن معالجتها بالمنشطات، أما التحلل هو العودة إلى نوى جذورية يستحيل بمفردها أن تشكل عناصر قيام دولة.
في الواقع تختلف هذه النوى إلى درجة يصعب للمراقب تتبع مسارها أو قراءة خصائصها. فإذا أرجعنا مثلاً هذه النوى إلى جذورها الطائفية نشهد صراعاً مميتاً بين مذاهبها. وإذا أرجعناها إلى جذور مذهبية نرى تمايزاً واضحاً في تمركزاتها المناطقية، وإذا ما سرنا في البحث عنها مذهبياً على قاعدة مناطقيتها نشهد تعارضاً قاتلاً في مراكز الجذب داخلها، بحيث يبدو أنّ بعض هذه النوى من حيث خصائصها تتلاقى مع من يختلف معها في المظهر العام.
كل ما تقدم، أدّى ويؤدّي، إلى ظواهر لا تمت إلى صيغ قيام الدولة بأيّ صفة، بل على العكس يصبح جزءاً لا يتجزأ من العوامل الفاعلة في تحلل الدولة واندثارها.
ظواهر انحلال الدولة كثيرة لا تخفى على أي مواطن. بدءاً من تعطل المؤسسات الرئيسة من الفراغ الرئاسي إلى التمديد غير الشرعي مروراً بهشاشة الوضع الأمني القائم على مؤسسات حلّت فيها الولاءات الفردية والمناطقية والطائفية والمذهبية محلّ الولاء الجامع للوطن. وكما في المؤسسات الأمنية كذلك في المؤسسات الخدماتية والقضائية. المشكلة نفسها تتكرّر ويزيد سعيرها تحت عناوين حقوق الطوائف والمذاهب والمناطق والزعامات.
ليست مشكلة النفايات إلا نموذجاً بسيطاً على التقاتل من أجل الحصص. وليست مسألة التنقيب عن النفط إلا نموذجاً آخر. ونستطيع أن نمرّ على كلّ الاستحقاقات من التعيينات في الوظائف الشاغرة إلى الموازنة العامة للدولة من دون أن نلحظ إنجازاً واحداً يصبّ في خانة تحصين مواقع الدولة عملياً، على رغم التصريحات والمواقف والخطب المتلاحقة والمحاضرات في العفاف.
في الواقع، لقد فات القطار مرحلة الإنعاش. جسد الدولة المتحلل لن تفيده المسكنات لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الإدارة. جسد الدولة اخترقته كلّ فيروسات الفساد والإفساد، كلّ العفن والنتن التقسيمي، كلّ موبقات الفردية والانتهازية والنفعية والطائفية والعشائرية والمناطقية. جسد الدولة اللبنانية مظهر من مظاهر مستوعبات «سوكلين» ممتلئ بكلّ النفايات ولا يجد مكاناً آمناً لطمره.