هل يكون لبنان هدف الحملة الفرنسية على «داعش» في سورية؟
سومر صالح
عام على العمليات العسكرية الواهية التي يقوم بها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والتي بدأت أولى ضرباتها في 19 أيلول 2014 ضدّ تنظيم «داعش» في سورية والعراق. اختارت فرنسا في بدء العمليات العسكرية أن تكون ضرباتها في العراق فقط دونما سورية، وتذرّعت آنذاك بأنّ القضاء على التنظيم يساعد الحكومة السورية، وهي صدقت في ما قالت، فالعدو الأساس لفرنسا هو حكومة دمشق وليس «داعش» الذي أنتجته مصالح المخابرات الفرنسية والدولية مع تنظيم «الإخوان»، والمطلوب تقوية هذا التنظيم لمحاربة الحكومة السورية وإضعافها بحيث تكون ذريعة فرنسية للضغط على واشنطن لإعادة سيناريو العدوان على سورية، كما كان مخططاً في نهاية العام 2013 إبان أزمة الكيميائي المفتعلة، لكنّ الولايات المتحدة آنذاك كانت تدرك النوايا الفرنسية في اقتسام الكعكة السورية في مرحلة ما بعد سقوط الدولة السورية وهذا ما لا تريده، لذلك لم تضغط على فرنسا للمشاركة في سورية. الفرنسيون أدركوا، بدورهم، أنّ الأزمة السورية باتت مجالاً للصراع الأميركي الروسي وهو أمر يفوق قدرة فرنسا التي اختارت البقاء تحت العباءة الأميركية في العراق، بانتظار تغيرات سياسية دولية لإحياء أوهامها في سورية وبقي موقفها من الحلّ السياسي متشدّداً وأحياناً مخالفاً للموقف الأميركي.
ولكن بعد عام على العمليات الجوية الأميركية، بدأت فرنسا الاستعداد لضربات ضدّ «داعش» في سورية، متذرعة بأزمة اللاجئين، وهي حجة واهية، وكان لافتاً أنّ «فرنسا ستختار بمفردها الأهداف التي ستضربها في سورية»، وهي عبارة تُبنى عليها حقيقة الحملة الفرنسية الواهية ضدّ التنظيم الإرهابي، وهنا علينا البحث في المتغيرات السياسية التي دفعت فرنسا إلى توجيه هذه الضربات لنتبيّن الأهداف الحقيقية من وراء حملتها العسكرية، ولكن قبل ذلك علينا وضع الحدث السياسي الفرنسي في سياقه الزمني والذي أتى ضمن إطارين زمنيين مهمّين: الإطار الأول هو القرار الروسي الجديد والمتعلق بدعم سورية اللامحدود في مواجهة الإرهاب والكلام عن خطة روسية لإنشاء تحالف دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب في سورية والذي سيطرح في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر أيلول الحالي، واللافت أيضاً إعلان السفارة الأميركية في الأردن عن إمكانية فرض منطقة عازلة في الجنوب السوري، متجاوزة مجلس الأمن، بذريعة «التدخل الإنساني». أما الإطار الثاني فهو اقتراب موعد اجتماع النورماندي لحلّ الأزمة الأوكرانية والمقرّر في الثاني من تشرين الأول المقبل. وبالانتقال إلى دوافع الخطوة الفرنسية نجد أنّ مبدأ المقايضة الدولية لساحات اشتباك مقابل أخرى كان مبدأ متغيراً وانتهازياً يحكم ثنائية العلاقة بين الأطراف الدولية من جهة، وموسكو من جهة أخرى، وهذا المتغير يقابله ثابت روسي بعدم قبول هذا المبدأ بالمطلق، وهو ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء مجلس الأمن القومي الروسي بتاريخ 25/3/ 2015، برفض مقايضة الساحة السورية بالأوكرانية، ولاحقاً السورية بالكورية الشهر المنصرم، إبان التوتر في شبه الجزيرة الكورية. وفي الإطار نفسه، نجد أنّ متغيراً روسياً بمكافحة الإرهاب كان خاضعاً للتفاهمات الروسية ـ الأميركية قد تحول إلى ثابت في السياسة الروسية تجاه سورية، وأنّ القرار الروسي هو القضاء على «داعش» وليس إضعافه في سورية، بالتزامن مع دعوة الخارجية الروسية لعقد مؤتمر جنيف 3.
الكلام الذي يُفهم هنا أنّ القيادة الروسية دخلت استراتيجياً في مرحلة إنهاء الأزمة السورية، هذا الثابت الروسي قابله متغير فرنسي بخلط الأوراق في سورية وتأزيم المشهد ابتغاءً لأهداف أخرى، انطلاقاً من ثابت المقايضة الفرنسي، إذا تدرك فرنسا جيداً أنّ الأزمة السورية بلغت ذروتها وأنّ الحلّ أقرب مما كانت تتوقعه. وفي مقابل قبول روسيا بوحدة الأراضي الأوكرانية، وفق اتفاقيات «مينسك»، سيكون هناك قبول أميركي بالحكومة السورية الشرعية وبوحدة الأراضي السورية وفق بياني «جنيف1» و«جنيف2»، وبالتالي فإنّ الأوهام الفرنسية بتدمير الدولة السورية تتلاشى، والدرس الإيراني كان قاسياً على الفرنسيين فالتعنُّت الفرنسي قاد إلى خسارة المصالح الفرنسية في إيران في مقابل ليونة أميركية إلى حدّ ما، وكي لا تتكرّر نتائج التجربة الفرنسية في أزمة الملف النووي الإيراني في مستقبل الأزمة السورية، كان القرار الفرنسي بإجراء مناورة سياسية في سورية عبر ضرب «داعش»، ولكن من دون التنسيق مع التحالف الدولي الذي تشاركه فرنسا في العراق، فأرسلت بذلك رسالة مزدوجة إلى كلّ من الولايات المتحدة وروسيا في آن، مفادها أنها في حِلّ من التفاهمات والتسويات الكبرى المشتركة ما لم تكن جزءاً منها أو مستفيدة منها، بل على العكس، وببراغماتية مطلقة، تريد فرنسا أن تجعل نفسها بيضة القبان بين تحالفين: الأول تقوده الولايات المتحدة في سورية، والثاني تعتزم روسيا إنشاءه في سورية قريباً، وبالتالي تريد فرنسا مساومة روسيا والولايات المتحدة للحصول على امتيازات في الشرق الأوسط، فمن جهة، تبتزّ الأميركي لمشاركته في تحالفه في سورية وعدم إحراجه أخلاقياً على غرار التحالف الدولي لضرب العراق في العام 2003، وتساوم روسيا بعدم انضمامها إلى تحالف واشنطن لتحصيل مكاسب. والثابت لدى فرنسا أنّ روسيا لن تقبل بمبدأ المساومة على الساحة السورية، فأين مكمن المصالح الفرنسية إذاً؟
هنا تتجه الأنظار نحو الساحة اللبنانية المشتعلة بأزمات الداخل ومخاطر الخارج، وباعتبار أنّ لبنان الذي كان ولا يزال محطّ الأطماع الفرنسية، سيكون ميداناً للمساومات الفرنسية، وهو قاعدة استعمارية قديمة لها ولديها فيه تحالفات قوية مع أطراف متناقضة ولها ثقلها الفرنكوفوني ولديها قوات عاملة ضمن «يونيفيل» في الجنوب اللبناني. ويعتقد الفرنسيون أنّ الروس لن يمانعوا إطلاق اليد الفرنسية في لبنان في مقابل تسهيل الحلّ السياسي في سورية وأوكرانيا، لتبقى الأمور معلقة بعدها بين فرنسا وإيران في رسم التوازنات اللبنانية، أما الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد أزمة اغتيال رفيق الحريري، فقد وجدت في فرنسا بديلاً يضمن مصالح «إسرائيل» الأمنية في لبنان، وخصوصاً من جهة العلاقة مع حزب الله لأنّ الاستراتيجية الأميركية القادمة تتجه شرقاً لتطويق الصين ولا بدّ من قوة دولية تملأ الفراغ الحاصل في الشرق الأوسط تمنع القوة الإيرانية من التمدّد في فضائها الحيوي وتشاغل القوة الروسية في الشرق الأوسط، ولكن قبل ذلك لا بدّ، أميركياً، من استغلال الاندفاعة الفرنسية جيداً من جهة ضبط الاتحاد الأوروبي في مواجهة التقارب الروسي ـ الألماني، بل وتوتير العلاقات الأوروبية الروسية بشكل دوري، وفرنسا لن تمانع حتماً، وبدأت تعمل جديّاً على هذا السيناريو، وخصوصاً مع بداية الحرب على اليمن، حيث عملت على وراثة الدور السعودي في لبنان من جهة استقطاب أدواتها في الداخل اللبناني، وعملت على إضعاف المملكة بتوريطها في حرب اليمن لمقايضتها بلبنان لاحقاً، على قاعدة دعم فرنسي لامحدود للسعودية في اليمن سياسياً وعسكرياً وتحمُّل أعباء أخلاقية أمام شعوب أوروبا.
لا يملك المشروع الفرنسي في لبنان أي رؤية استراتيجية أو جيوبوليتيكية ومآله الفشل، وهو يستند إلى رؤية استعمارية ضيقة بشكلها القديم أيقظها الصراع الروسي ـ الأميركي وتقاسم الشرق الأوسط المفتت وتغير محور السياسة الأميركية شرقاً، وخصوصاً أنّ الورقة المسيحية خرجت من يدي فرنسا، نتيجة عاملين: الأول أنّ النائب العماد ميشال عون، الذي يمثل القوة المسيحية الأبرز، لا يثق بالسياسة الفرنسية بعد تعيين ميشال سليمان رئيساً للبنان في عهد الرئيس ساركوزي، والثاني هو التفاهم العميق بين عون والمقاومة اللبنانية على قاعدة التضامن العضوي بين الطرفين وهو تفاهم يؤسّس لمرحلة لبنان الجديد المستقل، والمؤكد أيضاً أنّ فرنسا لم تدرك معنى التواجد الروسي في شرق المتوسط وأنّ مرحلة جديدة في مستقبل الشرق الأوسط قد بدأت، لا مكان فيها للمشاغبات التي اعتاد فريق 14 آذار القيام بها خدمة لمشغليه.