هكذا حسبها الفلسطينيون… في فلسفة ذكاء التوقيت
ناصر قنديل
– تدور مناقشات لا تهدأ بين نخب فلسطينية وعربية داخل الأرض المحتلة وخارجها، وخصوصاً الأراضي التي نشأ عليها كيان الاستيطان العام 1948، حول آليات التفاعل الواجبة مع الحدث الذي فرض نفسه بلا قرار سياسي صادر عن مرجعية قيادية فلسطينية، وبلا حدث كبير فجّر غضبة شعبية شاملة تشبه انتفاضة العام 2000، فما جرى ويجري من جانب الاحتلال هو نفسه الذي ما انفكّ يجري منذ سنوات وشهور، وحجم الرد والغضب الذي فاجأ الإسرائيليين فاجأ الفلسطينيين والعرب المتعاطين للسياسة والشأن العام بمختلف مشاربهم. يقول مشاركون في هذه المناقشات إن التشخيص بالنسبة إليهم ليس مجرد فضول معرفة، ولا ترف البحث العلمي، بل هو ضرورة لتحديد السقوف التي تتيحها هذه الحالة من النهوض التي لم تعرفها فلسطين إلا مرتين، الأولى العام 1988 وامتدت لتنتج اتفاقية أوسلو والثانية العام 2000 وانتهت بمفاوضات ماراتونية وظهور رباعية دولية ولا زالت أطلالها مستمرة من دون أن يتحقق بنتيجتها أي شيء.
– الجواب الأول على السؤال، يبدأ من أن معدل انتفاضة كل خمس عشرة سنة من بقاء القضية الفلسطينية عالقة بلا حلول تتقدم ولا مواجهات تفرض نفسها، هو تعبير موضوعي عن تتالي الأجيال وتتابعها، فجيل الانتفاضة العام 2000 هو غير جيل انتفاضة العام 1988 وجيل انتفاضة اليوم هو غير الجيلين، من دون أن يعني ذلك وقوف جيلَيْ الانتفاضتين السابقتين خارج سياق الانتفاضة الحالية، بل وقوفهما في دائرة التدقيق ومحاولة الفهم والمراقبة، تمهيداً للانضمام الذي عندما يحدث سيقلب الموازين رأساً على عقب في المواجهات، بما لدى هذين الجيلين من خبرات وقدرات ومواهب قيادية وأصوات مسموعة، وعلاقات خارجية وداخلية مؤثرة يصعب معها بقاء التنظيمات وتشكيلاتها المسلحة خارج حلبة المواجهة.
– هذا الجيل المولود ما بين 1995 و2005 لم تتسنّ له المشاركة في الانتفاضات السابقة، وقد تشكل وعيه السياسي خلال السنوات الخمس الماضية على إيقاع الربيع العربي، ومعه السقوط المدوي لمقولات كانت تشكل عنوان وعي جيلَي الانتفاضتين السابقتين، ولذلك فوعي جيل الانتفاضة الجديدة مختلف ونوعي وجذري. فبقياس علم الاجتماع السياسي لتغيير المفاهيم المحددة والحاكمة للوعي السياسي لذاكرة الأجيال، فقد حكم الانتفاضة الأولى وعي يتعلق بمراقبة وتشجيع صعود تنظيم الإخوان المسلمين والتعلق بما سيحمله من تغيير في الموازين من خلال فرعه الفلسطيني الذي شكلته حركة حماس، وما رافق دخولها حلبة المواجهة من شعارات وسلوكيات ومواقف تنبض بروح المقاومة، في زمن ترهُّل حركة فتح وتمسكها بمشروع التفاوض، وجاء تتويج الانتفاضة الأولى باتفاقيات أوسلو فرصة اختبار أخيرة لفرضية فتح التفاوضية، لتكون الانتفاضة الثانية العام 2000 والانتخابات التشريعية التي حملت لحماس أغلبية البرلمان الفلسطيني تعبيراً عن مكافأة شعبية لها ولخيارها المقاوم. وهكذا منحها الجيل الثاني تكفيراً عن خطأ الجيل الأول، وتوّجت حماس تجربتها ببلوغ الجدار الأخير، عندما غلّبت في حروب غزة الأخيرة تحالفاتها الإخوانية على هويتها الفلسطينية فصارت قطر وتركيا دول محور المقاومة، وصارت سورية وصار حزب الله وإيران قوىً على لائحة البحث في هويتها المقاومة، بسبب موقعها من مشروع الإخوان الجاري تطبيقه في المنطقة برعاية أميركية أمام أعين شباب فلسطين بأجيالها الثلاثة. الجيلان اللذان اختبرا انتفاضتيهما والجيل الذي يكوّن وعيه ويستعدّ، والوعي الجديد لجيل الانتفاضة الثالثة هو أنّ لا قيادة سياسية ترث أخرى، ولا رهانات عقائدية وسياسية وحزبية وراء الباب، ولا قيادات تحت الاختبار. الشباب يرسمون مشروعهم بالدم، وعلى التنظيمات تحديد خياراتها ومواقفها وموقعها.
– مع اكتمال دورة الربيع العربي اكتملت تجربة كانت تعد العرب والمسلمين بالمن والسلوى، إذا قُيّض لها إمساك القرار في مصر. وهي تجربة الإخوان المسلمين التي بلغت ذروة تحقيق أحلامها بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن تشكيلات الإسلام السياسي التقليدية جميعاً، وجاءت النتيجة مروّعة نصفها مأساة ونصفها مهزلة، فقد تكشّفت التجربة عن قمة الانتهازية والمتاجرة بفلسطين وقبول دور الخادم الوضيع للسياسات الأميركية والحارس المطيع للأمن الإسرائيلي، مقابل كرسي الحكم، وكانت المأساة، أما المهزلة، فإن هذا التنظيم العالمي المتجذّر في سبعين بلداً خلال سبعين سنة، والذي حكم دفعة واحدة مصر وتونس وتركيا، وأمسك بنصف القرار في ليبيا واليمن، وصار شريكاً في صياغة معادلات سورية والأردن، سقط سقوطاً مدوياً فيها جميعاً في عام واحد. ومع هذا السقوط أفسح المجال دفعة واحدة للتفكير بعقل بعيد عن القوالب الجامدة والجاهزة، تستردّ فيه القضايا أماكنها التي تحتلها طبيعياً في الذاكرة والوجدان الجمعيين للشعوب، فلا خط التفاوض جاء بجديد رغم عقدين من الفرص التي منحها له الفلسطينيون، الذين اكتشفوا درجة الغباء السياسي والجهل التاريخي لأصحاب وهم دولة تضمّ الضفة الغربية وبعضاً من القدس يتنازل عنهما المحتل الآتي بقوة وهم وخرافة أرض الميعاد، وهما أرض الميعاد في مشروعه، وليست أراضي العام 48 في ذاكرة هذا المحتل إلا منصة لبلوغ القدس والضفة، ويكتشف الفلسطينيون مع السقوط المدوي للإخوان أن طبخة «غزة أولاً» التي وضعها الأتراك والقطريون على نار حامية وبدأت حماس ترتب بيتها الداخلي لقبولها، لا يسقطها إلا عنوان القدس والأقصى في بيئة ذاكرتها الدينية مستيقظة إلى هذه الدرجة، فكانت لحظة الوحدة الوطنية تقترب، من بوابة الأقصى والقدس، بتوقيت التيقن ذاته الذي يسود الاحتلال، مستوطنين وصناع قرار، بأنّ الوضع الإقليمي الدولي تنسدّ فيه آفاق السلام وقدرات خوض الحرب، وأنّ السير بتهويد القدس والضفة هو الأولوية في زمن الانشغال العربي والدولي بالملفات الأخرى، فتلاقى في منتصف الطريق مخطط التهويد مع عزم تفجير الانتفاضة الثالثة بسقوط الأوهام وتبلور وعي الجيل الجديد وتقاطعه بلحظة وحدة كانت مفقودة في زمن زهو رام الله بوهم إنجازات مفترضة من التفاوض وزمن زهو غزة بوهم إنجازات مفترضة من زمن الإخوان. والزمانان يدخلان أفولاً لا رجعة بعده، ولا فراغ في السياسة فكيف في القضايا الكبرى للشعوب؟
– في زمن رسم خرائط الشرق الأوسط كان مستحيلاً بالقدر ذاته أن يقبل المحتلون بقاء أمرهم معلقاً على موائد الانتظار، وأن يرتضي الفلسطينيون وقوفاً على أرصفة الموائد. والجيل الجديد ليس جيل قناتي «الجزيرة» و»العربية» اللتين سقطتا سقوطاً مدوياً في الربيع العربي كتعبير عن مشروع الفوضى الأميركية، التي سقط معها سقوطاً مدوياً وهم عربي كبير كان عنوانه، لا تحضر فلسطين إلا عندما تحضر الحرية والديمقراطية، فتتحوّل الحرية والديمقراطية سلاحاً للغدر بفلسطين في كل ساحات هذا الربيع، وسلاحاً للقتل وإسقاط فلسطين في ساحة العرب الوحيدة المتبقية لفلسطين وهي سورية. فالجيل الجديد هو جيل تبلور وعيه مع تساؤلات الأزمة السورية، وجيل حرب تموز 2006 حيث صورة السيد حسن نصرالله تحتلّ بيوت الفلسطينيين، وهو السيد الذي يُراد منهم تصديق أنه باع فلسطين بلعبة المذاهب والطوائف، لتتكشف مع الحرب على سورية كل يوم حقيقة نصرالله وصدقية ولائه ووفائه لفلسطين. وتظهر الحقيقة الفلسطينية لحرب الرئيس السوري بشار الأسد وحقيقة موقف السيد نصرالله منها وفقاً لبوصلة فلسطين، فيصير الجيل جيل نصرالله وبشار الأسد معاً، وتكبر صورة الأسد، حتى يترجّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن حصانه ويصير الجيل جيل نصرالله والأسد وبوتين.
– حسبها الفلسطينيون جيداً، فالموازين تتغير في المنطقة، وحلفاؤهم يتقدّمون، والحرب على إيران صارت وهماً بعد التفاهم معها على ملفها النووي، والحرب على سورية تتحوّل خرافة مع الانتشار الروسي في أراضيها وأجوائها، والمقاومة تجسّد ميزان ردعها المستدام على حدود لبنان. فماذا على الفلسطينيين أن ينتظروا للاستثمار على كل ذلك ويبدأوا بفتح النار، وهم يكتشفون أن عنوان قضيتهم يعود ليصير حق العودة للاجئين قبل بناء دولة الوهم، وراهن همومهم وقف التهويد والاستيطان قبل الحديث عن دولة وحرس جمهوري ونشيد، وهي أيقونات ينبغي دفع أثمانها تخلياً عن حق العودة وفلسطينيي العام 48 وربما القدس والصمت على التهويد؟ فقال الشباب ليس ضرورياً أن يكون كل شي مبرمجاً ولا أن تكون النهايات واضحة، حتى نبدأ، هكذا تقول تجربة المقاومة في لبنان، يكفي أن نثق بحقيقتين، أننا ندافع عن حق، وأن الموازين المحيطة صارت أحسن، وليكن شعار المرحلة حماية دولية للفلسطينيين ولنبدأ من القدس وأهلها، وبعدها نتحدّث!