مفاجأة أردوغان
ناصر قنديل
– حدثت مفاجأة غير متوقعة في الانتخابات التركية منحت حزب العدالة والتنمية فوزاً لم ينتظره قادته، كما صرّح علناً بذلك رئيس الحكومة التركية داوود أوغلو عقب الفوز، وكذلك كما افتتحت نشرات الأخبار التلفزيونية التركية تغطيتها للنبأ، والواجب يقتضي القول بشجاعة إنني من الذين كانوا على ثقة بأنّ كلّ شيء يقول إنّ حزب العدالة والتنمية لن ينجح في إسقاط حزب الشعوب الديمقراطي عن عتبة الـ10 وهو الشرط اللازم لفوزه بالأغلبية، وبالتالي لن يفوز بهذه الأغلبية، وإذ به يفوز وبفارق هامّ من دون النجاح بإخراج حزب الشعوب الديمقراطي من العتبة، بل بالتهام جزء من رصيد حزب الحركة القومية التي تمثل اليمين التقليدي بصورة أساسية، وبعضاً من مصوّتي حزب الشعوب الديمقراطي، وزيادة نسبة المقترعين من جهة ثانية، ولذلك يقتضي الاعتراف بأنّ التقدير الذي كان أساس الاستنتاج لم يطابق النتيجة بل جاء عكسها، ولا يعود مهمّاً هنا أن يكون حزب الشعوب الديمقراطي قد بقي في الحلبة، أو أن يكون حزب العدالة والتنمية نفسه قد تفاجأ، وأن يكون خصومه قد تفاجأوا وأن يُجمع الإعلام التركي على وصفها بالمفاجأة، ولا حتى كوننا استندنا إلى استطلاعات الرأي التي لم تصل أشدّها تفاؤلاً لمصلحة حزب العدالة والتنمية بتوقع تخطيه نسبة الـ44 ، والمعلومات المتاحة كلها تقول كذلك، والتحليل والاستنتاج ليسا ضرباً في الغيب بل تقدير مبني على الوقائع، ورغم كلّ ذلك لا بدّ من شجاعة الاعتراف بأننا تبنّينا استنتاجاً جاءت النتائج بعكسه، وهذا واجبنا ضمن مسؤوليتنا ومصداقيتنا مع القارئ والمتابع، لننصرف بعدها في محاولة تفسير لهذه المفاجأة، من دون أن نترك مجالاً أو التباساً بأنّ ما سنقوله هو من قبيل تبرير استنتاجنا السابق الذي خالفته النتائج.
– السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هو هل عوامل التأثير التي أدّت إلى المفاجأة كانت في التداول بين فرضيات التحليل السياسي المحتمل في تركيا والعالم، والجواب بالنفي، حيث رجّحت صحف كبرى كـ«واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«لوموند» و«غارديان» وسواها فشل الثنائي رجب أردوغان وداوود أوغلو في نيل الأغلبية مجدداً، كما لم تظهر استطلاعات الرأي تبدّلاً في مزاج الناخب التركي يتيح توقع المفاجأة التي يجمع أهل الإعلام والسياسة في تركيا وخارجها على تسميتها بالمفاجأة، لا بل إنّ مركز الحزب نفسه بدأ يتهيّأ قبل أسبوع لتسويق مشروع حكومة ائتلافية، ويعتبرها حاجة للاستقرار في حال عدم فوز الحزب بما يسمح له بتشكيل الحكومة منفرداً، وصولاً إلى كلام أوغلو نفسه عن لا انتخابات ثالثة، وهذا يعني أنّ الذي جرى ليس تطوّراً تراكمياً بدأ برسم مسار تصاعدي في الرأي العام وصولاً للنتيجة، بل هو شيء مفاجئ جرى في ما يمكن وصفه بالعتمة، حتى صنع المفاجأة، فما هو هذا الشيء المفاجئ؟
– السؤال الذي يسبق الجواب هنا هو هل نقتنع أنّ الحكم في بلد كتركيا يمكن أن تحسمه عملية ديمقراطية صافية يحتكم فيها للإرادة الشعبية، بعيداً عن أدوار القوى العالمية الفاعلة، وخصوصاً واشنطن التي تشكل تركيا أهمّ حليف إقليمي لها، وفي لحظة من التطورات التي تحتشد في منطقة الجوار التركي على حدودها مع سورية والعراق وإيران، وهل كان ضمور حزب العدالة والتنمية مثله مثل تراجع «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس خارج الرضى الأميركي بعد الفشل المدوّي الذي أصيب به التنظيم الحاكم في تركيا وقبلها ومعها في مصر وتونس، بإسقاط سورية، وهل كان صعود العامل الكردي في تركيا خارج هذا الرضى الأميركي والغربي، وهل كان للتصويت الانتخابي غير وظيفة تظهير التحوّلات الجارية في الحسابات الأميركية في المنطقة، وخصوصاً محاولات تركيا أردوغان الحفاظ على خصوصيتها الإخوانية في إدارة العلاقة بـ«داعش»، والتفاوض مع إيران، والتعاطي مع الحرب على سورية، وفقاً لأجندة تتقاطع وتتمايز وتختلف مع الرؤية والاستراتيجية الأميركية في لحظة لا تحتمل هذه الهوامش؟
– العودة إلى السنة الأخيرة من عهد الثنائي أردوغان أوغلو تفسّر بنسبة كبيرة ظهور الرسائل الأميركية التي عبّرت عن ذاتها بانشقاق جماعة فتح الله غولن عن حزب العدالة والتنمية وحرب السيطرة التي دارت بين فريق أردوغان وأوغلو من جهة وفريق غولن من جهة مقابلة، ترجمتها الانتخابات في حزيران الماضي بمنح مناصري غولن أصواتهم لكلّ من حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي وصناعة الفشل الأردوغاني، وتحرك الأصوات المعاكس هذه المرة بحجم يوازي خمسة ملايين صوت لا يمكن تفسيره بغير حركة البلوكات الانتخابية التي تنتجها صفقات غير معلنة ومتقنة يستحيل أن تتمّ وتترجم نفسها انتخابياً بهذه الدقة، من دون أن تكون اليد الأميركية حاضرة.
– ماذا تمّ بين الأميركيين وحزب أردوغان خلال الأسبوع الأخير، أو ربما اليومين الأخيرين، ليتمّ تعويمه وتجديد الثقة به بأصوات كتلة فتح الله غولن، وما هو الثمن الذي أدّاه أردوغان، والذي جرى في الأسبوع الماضي واليومين الأخيرين يجب أن يكون أكبر من حدث الدخول الروسي بقوة على خط الحرب في سورية، الذي رغم حجمه وأهمّيته لم يعدّل في موقف واشنطن، ولا باتجاه التصويت لمناصري غولن، ثمة شيء واحد حدث أخيراً، هو تفاهم فيينا وما تضمّنه من تسليم بوضع مطلب رحيل الرئيس الأسد خارج النقاش واعتماد الانتخابات طريقاً لحسم المؤسسات الدستورية السورية، ضمن التفاهم الكبير بوقف السياسة المزدوجة مع التنظيمات الإرهابية، وهذا تفاهم أميركي روسي، يتضح يوماً بعد يوم أنه نهائي وثابت وكبير وربما تاريخي، وأردوغان وحزبه أول المناوئين علناً لهذين البندين، التخلي عن التصعيد تحت عنوان اشتراط رحيل الرئيس السوري، والتخلي عن احتضان المجموعات المسلحة المتفرّعة من تنظيم «القاعدة» بمنوعاتها، فهل تعهّد أردوغان وأوغلو لواشنطن بالتزام تفاهم فيينا؟