أولى

الاعتراف بالدولة الفلسطينية مهمّ الاعتراف بالمقاومة ودعمها بالمال والسلاح أهمّ وأجدى

‭}‬ د. عصام نعمان*
تتوالى “المصالحات” بين خصوم الماضي في الشرق الأوسط. إنها ليست مصالحات بالمعنى المتعارف عليه بل تسويات سياسية ومالية حول نزاعات بعضها قديم وبعضها الآخر جديد. أولى المصالحات بدأت، وما زالت تتكامل، بين الولايات المتحدة وإيران. ظاهرها موافقة طهران على إخلاء سبيل أربعة من المحتجزين الأميركيين مقابل إفراج واشنطن عن 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني محتجزةً لدى كوريا الجنوبية. باطنها مجهول يكتنفه الكثير من الأسرار والتكهّنات، أشار اليها بعض الكتاب والمعلقين السياسيين في الشرق والغرب. منها، على سبيل المثال، أنّ المبلغ المفرج عنه والمستحق لإيران يتجاوز 6 مليارات دولار وتصل مفرداته بمجموعها الى نحو 24 مليار دولار. تردّدَ أيضاً انّ إيران تعهّدت لقاء تسليمها هذه المليارات بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم الى مستوى 90 في المئة.
ثانية المصالحات جرت بين السعودية وإيران. ظاهرها استعادة العلاقات الديبلوماسية وعودة سفارة كلّ منهما الى عاصمة الأخرى. تردّدَ ايضاً، دونما دليل، أنّ “الصفقة” تنطوي أيضاً على وقف دعم طهران للحوثيين وحكومة صنعاء مقابل تعهّد الرياض بوقف التشدّد والتنكيل بجماعة الشيعة من مواطنيها المقيمين في المناطق الشرقية للبلاد”.
تكهناتٌ كثيرة ستترى في الحاضر والمستقبل، بعضها قد ينطوي على صدقية، وبعضها الآخر قد يفتقر الى أيّ موثوقية. الأمر الأكثر أهمية هو ثبوت شروع الولايات المتحدة في انتهاج مقاربة جديدة لعلاقاتها مع خصومها كما مع أصدقائها، وذلك في ضوء تطورات لافتة في داخلها كما في العالم الأوسع.
في الداخل تشكو الولايات المتحدة من ظاهرة تضخم كبير يعصف بمجمل اقتصاد البلاد ما انعكس سلباً على قطاع المصارف وأدّى الى خلخلة أوضاع عشرة من كبارها، فسارعت معها وزارة الخزانة الى دعمها تفادياً لما هو أسوأ. الى ذلك، أدركت واشنطن انّ ثمة تحوّلات وتغيّرات طرأت وتطرأ على مختلف الدول في شتى القارات نشأت عنها تطورات وتحديات جديدة تتطلب معالجات غير تقليدية الأمر الذي دفع واشنطن الى المباشرة في اعتماد استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها ونفوذها في شتى أنحاء العالم.
ما يهمّنا، بالدرجة الأولى، هو ما يمكن أن يتأتى عن كلّ هذه التطورات والتحوّلات في المشرق العربي بالنظر الى وجود “إسرائيل” من جهة، ومن جهة أخرى وجود المقاومة الفلسطينية وحلفائها في دنيا العرب والعجم. ذلك انّ الكيان الصهيوني وما ينطوي عليه في الوقت الحاضر من تناقضات وصراعات داخلية قد يدفع حكومته برئاسة بنيامين نتنياهو الى القيام بتحركات وربما بحروب، بدعمٍ من الولايات المتحدة او برضى ضمني منها، ما قد يتسبّب بإنعكاسات سلبية ليس على فلسطين والمقاومة الفلسطينية فحسب بل على حلفائها أيضاً في المحيط العربي، ولا سيما على لبنان وحزب الله الذي يشكّل أقوى وأبرز حلفاء المقاومة الفلسطينية وداعميها سياسياً وميدانياً.
على هذا الصعيد، يقتضي إبراز الحقائق الآتية:
اولاً: صحيح انّ الكيان الصهيوني وحكومته الفاشية مرشحان دائماً الى مباشرة أقسى أشكال الاعتداءات على أعدائهما، لكن انغماس الكيان في صراعات داخلية مريرة منذ اكثر من ثلاثين اسبوعاً قد يرجئ هذه الاعتداءات الواسعة تفادياً لخسائر جمّة تعرف قيادته السياسية والعسكرية أنها ستؤدّي الى تصدّعه وإنهياره.
ثانياً: ثمة حقيقة ساطعة انّ المقاومة الفلسطينية لم تنجح في حماية وجودها ومؤسساتها في قطاع غزة فحسب بل تمكّنت ايضاً من تقديم دعمٍ وافر للمقاومة، أفراداً وجماعات، في سائر أنحاء الضفة الغربية الأمر الذي وضع “اسرائيل” امام ظاهرة فريدة وخطيرة هي انطلاق مقاومة ذاتية، أضحت معها كل فلسطينية وفلسطيني مشروع مقاوم وشهيد، وان هذه الظاهرة ــ مشفوعةً بنضال الحركة الأسيرة وبعض الأحرار في الأراضي المحتلة سنة 1948 باتت معها فلسطين التاريخية كلها في حال انتفاضةٍ متصاعدة ضد الإحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً: إنّ وصول الأمير محمد بن سلمان الى ولاية العهد وبالتالي الى قيادة السعودية فعلياً يتكشف يوماً بعد آخر عن تغيير محسوس في سياسة المملكة الموالية تقليدياً للغرب الأميركي والأوروبي. في هذا المنظور، انفتحت السعودية على الصين، ثم ما لبثت ان وافقت على وساطتها للتوفيق بينها وبين إيران لإنهاء قطيعةٍ دامت اكثر من 16 سنة. اخيراً وليس آخراً، عيّنت الرياض سفيراً لها في فلسطين ليتولى أيضاً منصب القنصل العام في مدينة القدس. السفير شدّد في تصريح له على أن “هذه خطوة مهمة لتعزيز العلاقات مع الأشقاء في دولة فلسطين وإعطائها دفعة ذات طابع رسمي في كافة المجالات”.
لا أرى، وربما غيري أيضاً، مصلحة في الانسياق وراء بعض القائلين إنّ مراد محمد بن سلمان من وراء هذه الخطوة التغطية على حديث متزايد عن جهود لتحقيق التطبيع بين “إسرائيل” والسعودية، ذلك أن ليس ثمة شيئاً رسمياً من هذا القبيل جرى إعلانه حتى الآن، فلماذا التقليل من أهمية هذه الخطوة في هذه الظروف العصيبة، ولماذا لا يُصار الى اغتنامها لمطالبة محمد بن سلمان بخطوةٍ إضافية اكثر أهمية: فتأكيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية و”إعطاؤها دفعة ذات طابع رسمي في كافة المجالات” أمر مهمّ بلا شك. لكن ثمة أمراً أكثر أهمية وجدوى هو ان تبادر السعودية الى دعم المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية بالمال، خصوصاً تلك الناشطة والمتصاعدة عملياتها في جنين ونابلس والخليل وطولكرم بغية تمكينها من تدويم فعاليتها ونجاحها، خصوصاً بعدما كشف رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يادلين بأنّ المقاومين في الضفة الغربية قد أتقنوا تصنيع القنابل والمتفجرات ويستخدمونها بفعالية ضد الجيش الإسرائيلي.
نعم، المطلوب انخراط سعودي أكبر وأفعل في دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً ومالياً، لا سيما بعد أن أصبحت عملياتها تشمل الضفة الغربية كلها.
يُقال إنّ مسار الألف ميل يبدأ بخطوةٍ اولى.
حسناً، لعل محمد بن سلمان يبدأ مسار السعودية الطويل لدعم المقاومة الفلسطينية، خصوصاً في الضفة الغربية، بدعمها مالياً بسخاءٍ وبلا تأخير…
*نائب ووزير سابق.
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى