أولى

النهوض العالمي مختلف هذه المرة

تاريخياً كانت الحكومات الغربية تتسامح مع الحركات الاحتجاجية التي تتخذ من القضية الفلسطينية عنواناً لها، وتاريخياً كانت هذه الحركات تعبر عن شارع يقع خارج البنية الرئيسية للقوى السياسية المتنافسة على السلطة، وخارج قدرة التأثير على مساراتها. وبعدما خاضت الحكومات الغربية حرباً إعلامية ضد الخيارات الإسلامية وفرضت الإسلاموفوبيا كثقافة عامة، ثم خاضت حرباً إعلامية ثانية لغسل الأدمغة من أجل تجذر الثقافة العنصرية البيضاء وذهبت بها الى أبعد مدى خلال الحرب الأوكرانية، وما رافقها من تعبئة ضد الروس ونجحت بذلك، اعتقدت حكومات الغرب أنها قادرة في لحظة كالتي أعقبت معركة طوفان الأقصى عن تصعيد تضامنها مع كيان الاحتلال في لحظة أزمة كبرى يعيشها، عبر منع التضامن مع الشعب الفلسطيني.
انطلق الرهان من ثلاثية هامشية الحركات التي تنظم الاحتجاجات عن الشارع السياسي التقليدي في بلدانها من جهة، واستثمار عائدات الإسلاموفوبيا بالتركيز على الطابع الإسلامي لحركة حماس ومحاولة الفصل بينها وبين العنوان الفلسطيني من جهة ثانية، والاستثمار على الروح العنصرية البيضاء التي تمّ بثها لعام ونصف من عمر الحرب الأوكرانية من جهة ثالثة، لكن هذه الحكومات فوجئت بحجم التفاعل الشعبي في الشارع الغربي التقليدي للأحزاب الكبرى، وتسارع نمو حضوره بصورة فرضت على الحكومات التراجع عن تصنيفات وإجراءات كانت بدأت باعتمادها واتخاذها.
الذي يجري في الشارع الغربي أشبه بثورة ثقافية بما يحمل من مفاهيم جديدة واعدة جامعة، حيث البيض والسود والملونون معاً، والمسلمون والمسيحيون واليهود معاً، والمتدينون والعلمانيون معاً، وجوهر ما تقوله هذه الثورة الثقافية يطال اعتبار مشهد مذبحة غزة مضبطة اتهام للمشروع الغربي، وكشف طبيعته الاستعمارية والعنصرية، وفتح النقاش الجدي حول مسألة الهوية الإنسانية وغيابها عن محركات صنع السياسة في الغرب، ومدخلها العدالة وحقوق الشعوب بتقرير مصيرها، حيث القضية الفلسطينية المعلقة على حبال الانتظار في ظلال الدعم الغربي الأعمى للكيان العنصري الذي يحتل فلسطين.
النخب ورموز المجتمع والفنانون والرياضيون والشركات، الجميع في حراك متسارع، والعالم ينقسم بقوة وسرعة، بين معسكر الإنسانية ومعسكر العنصرية العدواني، ولا يبدو أن هناك مكاناً للحياد، عندما نرى عارضة أزياء مثل بيلا حديد تجاهر بالوقوف مع الشعب الفلسطيني، ونرى شركة ديور تفصلها من عملها كسفيرة صداقة لديور، وتعين مكانها بديلاً عنها عارضة «اسرائيلية». وهذا نموذج متكرر على نطاق واسع، ففي مؤسسة إعلامية عريقة مثل بي بي سي، تحيل الى التحقيق مذيعة عريقة تعمل لديها منذ عقود لمجرد إبداء تعاطفها مع الشعب الفلسطيني.
رد الاعتبار لمفهوم الإنسانية ومفهوم العدالة بقوة شارع غربي في حال نهوض، مما يرافقه من نقاشات ومواقف وبروز قيادات جديدة، حدث كبير لم تشهد الساحة الثقافية العالمية مثله منذ الثورة الفرنسية قبل قرون.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى